الجمعة، 14 مارس 2014

المدخل الى علوم البلاغة


بسم الله الرحمن الرحيم
جامعة سنار كلية العلوم الإسلامية والعربية
قسم اللغة العربية
مقرر :
 المدخل إلي علوم البلاغة
المستوي الأول ــ الفصل الدراسي الأول
إعداد :
د.نميري سليمان علي




























بسم الله الرحمن الرحيم
جامعة سنار
كلية العلوم الاسلامية والعربية
قسم اللغة العربية
المستوي الاول ــ الفصل الدراسي الاول
اسم المقرر المدخل لعلوم البلاغة                                                   ساعات المقرر:ساعتان اسبوعياً

اهداف المقرر:
ـ الوقوف علي تاريخ نشأة البلاغة وتطورها .
*وصف المقرر:
  يعني هذا المقرر بدراسة تاريخ البلاغة :نشأتها وتطورها واكتمالها ، ودراسةً مفصلةً لإبراز علمائها .
المفردات
 ـ تاريخ البلاغة وفيه البلاغة منذ نشأتها في العصر الجاهلي وتطورها في عصر صدر الاسلام وبني امية .
ـ البلاغة في العصر العباسي ودور العلماء اللغويين كابي عبيدة ، والمعلمين كالجاحظ .
ـ تطور البلاغة من خلال الكتب المنهجية والكتاب المنهجيين من النقاد والبلاغيين ، ودارسي الاعجاز القرآني مثلاً :
·       سر الصناعتين لابي هلال العسكري .
·       سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي .
·       المثل السائر لضياء الدين بن الاثير.
·       بيان اعجاز القران الخطابي لرماني.
·       الرسالة الشافية في اعجاز القران لعبد القاهر الجرجاني.
·       اعجاز القران للباقلاني .
·       مفتاح العلوم لسكاكي.
المصادر والمراجع:
1ـ مفتاح العلوم للسكاكي .
2ـ سر الصناعتين لابي هلال العسكري .
3ـ البديع لابن المعتز .
4ـ دلائل الاعجاز لعبد القاهر الجرجاني.
5ـ سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي .
6ـ العمدة لابن رشيق القيرواني .
7ـ الايضاح للخطيب القزويني.
8ـ المثل السائر لابن الاثير.
9ـ نشأة البلاغة وتطورها د. شوقي ضيف.
10ـ البيان والتبين للجاحظ.
  تقويم المقرر
ـ حضور 10%.
ـ اعمال السنة 15%.
ـ الامتحان 75%.

بسم لله الرحمن الرحیم
مقدمة :
لم تُوَلد البلاغة بوصفھا علًما ھكذا مكتملة القواعد والأصول، بل كانت في أول العھد بِھا مجرد نظرات ذوقیة متناثرة نوافق إرھاصاتِھافي بعض ملاحظات شعراء ما قبل الإسلام في تثقیف شعرھم ونقده،وصحابته  في موقفھم من الشعر وبیان   وفیما روي عن رسول لله وظیفته  في ظل الدین الجدید، كما نستطیع الوقوف على أولیَّات البحث ا لبلاغى في تحلیل حَّذاق النحاة القدامى لتراكیب العربیة ووضع القواعدالضابطة لحركة التعبیر بِھا، وفي جھود المتكلمِّین والُمَفِّسرین وھم بصدد تفسیر القرآن الكریم، وبیان أوجه  إعجازه.
وقد اتفق للعلماء شيٌء من تلك المعاییر البلاغیة في مراحل باكرة من تاریخ ھذا الفن، ثم تنامى الاھتمام بِھا على مستویات متآخذة، أسھم في صیاغتھا ورعایتھا آنذاك بیئات علمیة تحسبھا مختلفة المشارب،ولكنھا على أیة حال متآلفة على ھدف دینى جلیل ھو فھم لغة القرآن الكریم ومحاولة إدراك مرامیه ، وبیان أوجه  إعجازه التي تفَّرد بِھا عما سواه من صنوف الكلام، وبزغ من خلال تلك الآفاق نجم البلاغةالعربیة.
فكان أن تناول العلماء بالبحث خواصَّ تراكیب الكلام من حیث تقدیمه  وتأخیره، وذكره وحذفه ، وتعریفه  وتنكیره، وإخباره وإنشاؤه،وقصره وإطلاقه  وفصله  ووصله ،  وإیجازه وإطنابه ، وأفادوا في كل ذلك بمنھاج اللغویین والنحاة من لدن سیبویه  (ت 180 ھ). وقد حاولوا إتمام ھذه الإفادة بمبحث فٍّذ في بلاغة العربیة؛ إذ دأبوا على البحث في أحوال اللفظة المفردة، وھي اللبنة الأولى التي تتشَّكُل منھا الجملةوالجمل والأسلوب، فبحثوا في العلاقة بین مبناھا ودلالتھا، وموقعھا من التراكیب، وموافقتھا للغرض الذي سیق له  الكلام، واشترطوا لفصاحةالكلمة والكلام والمتكلمِّ شروًطا بعضھا نسبي یرجع إلى أذواق المتلقیِّن بحسب اختلاف الأعصر والثقافات، ویرجع بعضھا الآخر إلى عناصرثابتة في طبیعة اللغة بنحوھا وصرفھا، ثم جعلوا ذلك فیما بعد مقدمةأولیَّة واجبة لتحلیِل النصوص ونقدھا.
وقد تزامن مع بحثھم في خواصّ التراكیب مباحث أخرى لصیقةالصلة بحقل الدلالة بین الحقیقة والمجاز، مما یتدارسه  أھل اللغة وأصول الفقه  كذلك، فطفق البلاغیون یتجاذبون إلى بحثھم مسائلھا وتفریعاتھا ،  ویتخذوَنھا مھادًا لتناول الطرائق التعبیریة التي ترَّتبتْ علیھا من تشبیه  ومجاز وكنایة وتعریض، مما شاع في كتاب العربیة القرآن   الكريم  ،وحدیث رسول لله (ص)،وآداب القوم  شعره ونثره، بوصفها هي الأخرى وسائل تُسھم مع غیرھا في تشكیل الصورة الأدبیة، وتتفاوت في درجة الإیضاح والتأثیر.
وَثَّمة وسائل بلاغیة أخرى عنوا ببحثھا، وكانت قد تَمَّخضت من مقدرة المبدع على التوفیق بین المتقابل أو المتناسب، إّما في المعنى بغرض توفیته  وتأكیده، وإما في اللفظ بغرض استجلاب التناسب الإیقاعي الذي یجاذب النفوس وُیؤِّثر فیھا.
كل ھذه العناصر مجتمعة ھي التي یتشَّكل منھا النصُّ الأدبي، وقد كان العلماء الُأول یتدارسوَنھا متآلفة تحت أي مصطلح من تلك المصطلحات: البلاغة أو البیان أو البدیع، وھي وإن اختلفت أسماؤھاومدلولُاتھا من الوجھة اللغویة، فلم یكن ھناك خلاف حول مسَّماھاومحتواھا الذي یضم وسائل التعبیر المتنوَعة، ویترادف في الدلالةعلیھا، لم یماِر في ذلك أحد - فیما نعلم - إلا مراًء ظاھًرا.
ظلت البلاغة وھي على تلك الھیئة المتآلفة في البحث والتحلیل حینًا من الدھر امتدَّ في التاریخ قرابة خمسة قرون، وھي على تلك الھیئة المتآخذة في البحث والتحلیل، وإن بزغ خلال تلك الفترة إرھاصات تجنح نحو تفریع عناصر البلاغة وتحدید مباحثھا.
ثم أتى على البلاغة حین آخر من الدھر عمد فیه  علماؤه عمًدا إلى تشقیق عناصرھا وتحدید مسائلھا، وأوغلوا في ذلك إیغالًا؛ فجعلواخواصَّ التراكیب التي سماھا عبد القاھر بمعاني النحو من مسائل علم المعاني، فَفصلوا بذلك النحو عن معانیه . كما خصُّوا ما یقع تحت مبحث الحقیقة والمجاز من التشبیه  والاستعارة والكنایة بعلم البیان، ثم آثروا وسائل توفیة المعنى والإیقاع بمصطلح البدیع، وقد تبلور ھذاالتقسیم على ید السكاكي (ت 626 ھ) في كتابه  مفتاح العلوم، ثم اتضحت فیما بعد معالمھا  على ید القزویني (ت 739 ھ) وشراح تلخیصه .
ومما یستلفت النظر ھھنا أن معظم مؤِّرِخى البلاغة یُحِّملون ا لسكاكي وحده وْزَر ھذه الفَعَلة وأوشابِھا التي لم تكن یوًما في حسبان الرجل أو من مقصوده؛ حیث فقد ھدانا استقراء تاریخ العلم إلى أن السكاكي لم یكن بدعا فیما ذھب إليه ، بل وجد في تراث سلفه  مھاداًیتھدي به  في مذھبه ، وُیْسلمِه  إلى سبیل معھود في تقسیم البلاغة،وتحدید معالم كل قسم من أقسامھا، بوصفھا معاییر صالحًة لتربیةالأذواق، والحكم على مدى فنیة العمل الأدبى، وقد فعل ما فعل بوازع من النھج التعلیمى الذي ساد عصره، واقتضته  طرائق القوم في المعرفةآنذاك.
نقول ذلك ونحن نسترجع ما یترَّدد على الأذھان منذ أمد؛ إذ تتابع جمھرة من المحدثین([ 1]) على وَصْم مذھب السكاكي بالعقم والجمود؛لجفاف الطریقة المنطقیة التي توَّسل بِھا في تحدید المعالم، مما نأيب البحث البلاغي عن رحابة الطریقة الأدبیة التي كانت تُعنى بالإكثارمن النصوص، وبیان مرجع الافتنان فیھا، إلى حصره في إطار تقریرالقاعدة وَسوق الشواھد المتوارثة علیھا عادة من غیر تحلیل یكشف عن مرجع البلاغة فیھا، فضلًا عما أوھم بھا  تقسیم البلاغة من تمزیٍق لأوصالھِا، وَتھمیشٍ لبعض عناصرھا.
وفي ظني أن نقد متجه  السكاكي الذي یلمز به  بعض الباحثین بلاغتنا، ویتذاكره معظمھم لأدنى ملابسه ، ینبغي ألا یقع على عاتق التقسیم في حِّد ذاته ، إْن كنا نُسلمِّ بداھة بأن تقسیم العلم – مذ كان –لازمة منھجیة یقتضیھا مقام التعلیم والدرس، ویفرضھا تراكم المعرفة في كل آن، بل یحُّق لذلك النقد أن یتجه  إلى نظرة اللاحقین لصنیع السكاكي، وطریقة تناولھِم لفنون كل قسم من أقسام البلاغة، وذلك حین صرفوا جَّل ھِّمھم إلى مجرد التعریف بالفن، وَسوق الشواھد والأمثلة  المتوارثة له ، عادة من غیر تحلیل یكشف عن مرجع البلاغة والافتنان فیھا.
إن النظر المنصف في مقدمة كتابه  (مفتاح العلوم) وغایته ،وطریقته  في التحلیل، یقضى بتبرئة ساحته ، ویعفیه   من ذنوب الذین لم یقرءوه، أو أساءوا قراءته ، وفھموا كلامه  على غیر وجھه ، وكأن السكاكي كان یستشعر موقف ھؤلاء جمیًعا فقال في مقدمته :" وقدضَّمنْتُ كتابي ھذا من أنواع الأدب دون نوع اللغة ما رأیتُه  لا بد منھا،وھي عدة أنواع متآخذة – لاحظ معى دلالة متآخذة – فأودعتھا علم الصرف بتمامه ، وإنه  لا یتم إلا بعلم الاشتقاق المتنوع إلى أنواعھا  الثلاثه وقد كشفتُ عنھا القناع، وأوردتُ علم النحوبتمامه ، وتماُمه  بعلمَي المعاني والبیان، ولقد قضیتُ بتوفیق الله منھما الوطر، ولما كان تمام علم المعاني بعلمي الحد والاستدلال لم أَر بُدًّا من التسُّمح بِھما، وحین كان التدُّرب في علمي المعاني والبیان موقوفاً على ممارسة باب النظم وباب النثر، ورأیتُ صاحب النظم یفتقر إلى علمي العروض والقوافي،تثنیتُ عنان القلم إلى إیرادھما، وما ضَّمنْتُ جمیع ذلك كتابي ھذا إلابعد ما مَّیزتُ البعض عن البعض التمییَز المناسبَ، ولخصتُ الكلام على حسب مقتضى المقام ھنالك، ومھدَّتُ لكِّل من ذلك أصولًا لائقة،وأوردتُ حَجًجا مناسبة، وقَّررتُ ما صادفتُ من آراء السلف قَّدس لله أرواحھم بقدر ما احتملت من التقریر، مع الإرشاد إلى ضروب مباحثقلتَّ عنایُة السلف بِھا، وإیراد لطائف مْفتَنَّة ما فتَق أحٌد بِھا رْتق أذن"(مقدمة الكتاب: ص 4، مطبوعة الحلبي).
كما أن وضوح تلك الغایة التعلیمیة في نظره جعلته  یُلُّح على أن علم البیان شعبة من علم المعاني لا تنفصل عنھا  إلا بزیادة اعتبار، فھویجرى منھا  مجرى المركب من المفرد، ولذلك آثر تأخیر تناولھا  عن علم المعاني([ 2])، وكأنه  یشیر بذلك إلى أن تقسیم البلاغة لا یُنافي اعتبارالصلات القویة بین فروعھا، بل ینبغي كذلك ألا یوھم بتمزیق أواصرالقربى بینھا.
ومن البديهي  أن كل معارف العربیة تتصل فیما بینھا اتصالًا طبعیا،ًحیث ارتبطت بأواصر القربى أو النسب إلى اللغة، وترَّتب بعضُھا على بعض، حتى صارت البلاغُة ثمرَتھا التي تتمَّخض عنھا جمیعا،ًوتتواشج بِھا تواُشَج الشجرة بجذورھا، وكما تتمَّثل ھذه المعارف اللغویةالمتآخذة في عقل المبدع ووجدانه  حینما یبدع نصّھ، ینبغي أن تتھَّیأ أیضا في عقل ناقده؛ ومن ثم كان على البحث البلاغي أن یتوَّسل في بناء معالمه  بنتائج ھذه المعارف والعلوم، فیسترفد من علم الصرف مثلًا معارفه  عن أحوال اللفظة المفردة من حیث تناغم أصواتِھا،وتجاوب بنیتھا مع مدلولھا في السیاق، ویسترفد من فقه  اللغة تناولھا  تطور الدلالة بین الحقیقة والمجاز، ومن قضایا التضاد والمشترك اللفظي وغیرھما في وقوفھا  على بعض مناحي البدیع، وفوق ذلك یتوَّخى البحث البلاغى معانى النحو في أثناء تحلیله  لخواص التراكیب من حیث التعریف والتنكیر، والذكر والحذف، والتقدیم والتأخیر،والفصل والوصل، والإطلاق والقصر، وخروج الكلام عن مقتضى الظاھر، وغیر ذلك من المعارف التي تُعینھا  على تحلیل النصوص ونقدھا.
وما كان للفصل بین علوم العربیة من جھة، وعلوم البلاغة من جھة أخرى، لیطمس ھذه البدائه ، بل كان تقسیم العلوم استجابًة منھجیة تفرضھا تراكم المعرفة؛ لیسھل بحثُ عناصرھا، وتحصیُل مسائلھا في مقام البحث والنظر حینا،ً أو في مقام التعلیم وتربیة الأذواق حینا آخر،وھذا لا یُوھم بتمزیق الأواصر بین ھذه العلوم، أو یرمى إلى تقطیع أوصال العمل الأدبى؛ فندرسها  طورا من حیث تراكیبھا ، وُنحللِّھا  طوًرامن حیث صوره البیانیة، وطورا ثالثا من حیث مناحى البدیع فیھا ، فذاك نظر قاصر یتجافى  مع الواقع التعبیري في النصوص العالیة، سواٌء في حالة إبداعھا، أو في حالة تلقیھا قراءة وتحلیلًا ونقدا ؛ً إذ ھي تتھَّیأ لنافي كلتا الحالتین كالجسد الواحد الذي تتداعى أعضاؤه على تشكیل صورته  الأدبیة، وإبراز أغراضه  وأثره في النفوس.
وعلى ھدي من تلك الطریقة في التفكیر والنظر، یسیر مذھبنا في بحث البلاغة وتدریسھا، سالًكا بك ما أمكن سُبَل المعرفة المباشرةبطرائق تراثنا في تناول فنون البلاغة وأسالیبھا المتنوعة بوصفھا مجتمعة معاییر صالحة لتحلیل النصوص ونقدھا، وھذه سبیل ستسلمك إلى الالتقاء بنظریة الصورة الأدبیة وبلاغة النص التي انتھي إلیھاالمحدثون على اختلاف مذاھبھم في التحلیل والنقد.
ولا یقف مذھبنا عند سُبل المعرفة النظریة بطرائق الفن التي لا بد من تحصیلھا، بل تَطرق بك سبلًا متنوعة من التطبیق والتدریب،  اخترناھا من أي الذكر الحكیم وحدیث رسول لله  ( ص ) ، والنصوص العالية من آداب العرب، وتتدرج بك ھذه التدریبات من المثال الواحد إلى المثالین، إلى الأمثلة المتعددة، إلى النص الكامل؛ حتى تُعینك على تثبیت المعرفة من جھة، وُتدِّربك على استخلاص العناصر البلاغیة التي تتشَّكل منھا الصورة الأدبیة من جھة أخرى.

نشأة البلاغة العربية ومراحل تطورها
البلاغة كغيرها من العلوم الإسلامية لم تكن وليد ساعة أو يوم وإنما مرت بمراحل عديدة حتى اكتمل نضجها حتى اكتمل نضجها وأصبحت علماً مستقلاً قائماً بذاته له قواعده وقوانينه .
البلاغة في العصرين الجاهلي والإسلامي
عرف العرب بالفصاحة والبلاغة وحسن البيان وقد بلغوا في الجاهلية درجة رفيعة من البلاغة والبيان وقد صوّر القرآن ذلك في آيات عديدة وقوله تعلى ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ) كما وضح القرآن شدة قوتهم في الجدال والحجاج " ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون "
ومن أكبر الدلائل على أنهم بلغوا في البلاغة درجة عالية رفيعة أن كانت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وحجته الدالة على نبوته القرآن , حيث دعاهم إلى معارضته , وتحداهم بأن يأتوا  في بلاغته الباهرة ، وهي بلا شك دعوة تدل بوضوح على تمكنهم ورسوخ قدمهم في البلاغة والبيان ، وعلى بصرهم بتمييز أقدار المعاني والألفاظ وتبيين ما يجري فيها من جودة الإفهام وبلاغة التعبير
وقد وصف الجاحظ العرب بالبلاغة والفصاحة وقدرتهم على القول في كل عرض حيث يقول ( والكلام كلامهم وهو سيد عملهم قد فاض به بيانهم وجاش به صدورهم وقد حفلت كتب الأدب كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني والشعر والشعراء لابن قتيبة والموشح في مآخذ العلماء على الشعراء للمزرباني بنماذج عديدة من النقد الجاهلي الذي كان بدور في أسواقهم المعروفة في الجاهلية كعكاظ ، من ذلك أن النابغة كانت كضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها فيقول فيها كلمته فتسير في الناس لا يستطيع أحد أن ينقضها . من ذلك قصته المشهورة في تفضل الأعشى على حسان بن ثابت ، وتفضيل الخنساء على بنات جنسها فثار لذلك حسان وقال له : أنا والله أشعر منك ومنها فقال له النابغة حيث تقول ماذا ؟ قال حيث أقوله :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى  ***    وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرّق    ***     فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
فقال له النابغة : إنك لشاعر لو أنك قللت عدد جفانك وسيوفك وقلت يلمعن في الضحى ولو قلت يبرقن لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً ، وقلت يقطرن من نجدة دما فدللت على قلة القتل ، ولو قلت يجرين لكان أكثر  لانصباب الدم ، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن تفخر بمن ولدك ، فقام حسان منكسراً .
ومن ذلك أيضاً قصة طرفة بن العبد وهو صبي عندما سمع المتلمس ينشد قوله .
وقد أتناسى الهم عند احتضاره      ***        بناج عليه الصيعرية مكدم
الصيعرية سمة تكون في عنق الناقة لا في عنق الجمل فقال طرفة : استنوق الجمل , فضحك الناس وسارت مثلاً , ومن ذلك أن العرب عابت على النابغة الذبياني الإقواء الذي في شعره ولم يستطع أحد أن يصارحه بهذا العيب حتى دخل يثرب مرة فأسمعوه غناء قوله :-
أمن آل مية رائح أو مغتدي   ***   عجلان ذا زاد وغير مزود
إلى قوله :
بمخضب رخص كأن بنانه     ***   عنم يكاد من اللطافة يعقد
ففطن النابغة فلم يعد إلى ذلك ، ويروي أنه حين خرج قال دخلت يثرب فوجدت في شعري صنعة فخرجت منها وأنا أشعر العرب .
وتروي كتب الأدب هذا البيت قوله .
زعم البوارح أن رحلتنا غداً    ***      وبذاك خبرنا الغرابُ الأسود
وأنه أصلحه بقوله :- وبذاك تنعاب الغرب الأسود .
وهناك أمثلة عديدة لكننا نكتفي بهذا القدر مشيرين إلى أن العرب في جاهليتهم كانت لديهم ملكة فنية استطاعوا من خلالها معرفة الكلام وتمييز جيده من رديئه .
ولا يخفى أن هذه الملاحظات النقدية كانت تعتمد على الذوق فهي نقد ذاتي لا يقوم على التعليل والتفصيل ، وبمرور الزمن ذكر العلماء لهذه الأحكام والملاحظات النقدية تعليلات تقوم على أسس بيانية ، وتحول هذا النقد إلى نقد بياني ينظر إلى  المعاني والألفاظ على أيدي البلاغيين.


البلاغة في عصر صدر الإسلام
لاشك أن للقرآن تأثيراً عظيماً في نشأة البلاغة وتطويرهما فقد عكف العلماء على دراسته وبيان أسرار إعجازه ، واتخذوه مداراً للدرس البلاغي فاتخذوا آياته شواهد على أبواب البلاغة واعتبروها مثالاً يحتذى في جمال النظم ودقة التركيب .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وهو كما نعلم كان أفصح العرب . كما كان شديد الاهتمام والعناية بالشعر والشعراء يحرص على سماعهم والإشادة بشعرهم من ذلك قوله لحسان رضي الله عنه " قل وروح القدس يؤيدك " وقوله عندما سمع قول النابغة الجعدي
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا  ***   وإنا لنبغي فوق ذلك مظهراً
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أين المرتقى ياأبا ليلى : فقال إلى الجنة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " لا فض فوك " .
وقد ظلت وفود العرب تختلف في عهد الخلفاء الراشدين إلى المدينة وتجمعهم أنديتها فيخوضون في شعراء الجاهلية والشعراء والمخضرمين وينظرون في الشعر والخطب ويجرون المفاصلات بين الشعراء والخطباء وقد  كان الخلفاء يخوضون في ذلك ولهم مشاركات في النقد من ذلك ما روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه عرض لرجل معه ثوب فقال له : أتبيع الثوب ؟ فأجاب : لا عافاك الله فقال له أبوبكر : علمتم لوكنت تعلمون قل لا وعافاك الله " وقد كانت لعمر وعلي رضي الله عنهما مساهمات في النقد ، فقد كان عمر بن الخطاب من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة من ذلك قوله " الشعر علم قوم لم يكن له علم أعلم منه "
وقوله في زهير " كان لا يعاظل في الكلام " أما علي رضي الله عنه  فقد اشتهر بالفصاحة والبيان , وفصاحته معروفة لا تخفى على أحد ‘ وقد روى أن أعرابياً وقف على علي رضي الله عنه  فقال : إن لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك فإن قضيتها حمدت الله تعالى وشكرتك وإن لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك ، فقال له علي : خطّ حاجتك في الأرض فإني أرى الضر عليك ، فكتب الإعرابي على الأرض إني فقير ، فقال علي : يا قنبر إدفع إليه حلتي الفلانية ، فلما أخذها مثل بين يديه فقال :
كسوتني حلةً تبلى محاسنها     * * *      فسوف أكسوك من حلل الثنا حللاً
إن الثناء ليحيى ذكر صاحبه    * * *     كالغيث يحيى نداه السهل والجبلا
لاتزهد الدهر في عرف بدأت به         فكلّ عبد سيجزى بالذي فعلا
فقال عليّ ياقنبر أعطه خمسين ديناراً ، أما الحلة فلمسألتك وأما الدنانير فلأدبك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنزلوا الناس منازلهم .
وبهذا تبين لك أن للخلفاء معرفة بالشعر ونقده ، كما أن ملاحظاتهم النقدية كانت كالجاهلين جزئية فطرية تعتمد على الذوق دون تعليل لها .
هذه الأحكام والملاحظات هي التي استحالت على أيدي البلاغيين من أمثال الباقلاني والرماني والعسكري وعبد القاهر والسكاكي إلى قواعد بلاغية محددة تحديداً علمياً دقيقاً قصد منها الوقوف على وجه إعجاز القرآن البلاغي وتكوين الذوق الأدبي الذي يستطيع إنشاء الكلام البليغ ومعرفة جيدة ويفاضل بينه . وهنا سؤال على قدر كبير من الأهمية لِمَ لم تظفر البلاغة التعليمية بشيء من التدوين في عصر صدر الإسلام مادام أن تدوينها وتعليمها من أمور الدين أو من الأمور التي يحتاج إليها المسلم كما يحتاج إلى معرفة الحلال والحرام ؟
الجواب على ذلك: أن الصحابة والتابعين كانوا يعرفون من القواعد البلاغية التي يقوم عليها إنشاء الكلام الفني والتي كانوا يعتمدون عليها في تمييز الكلام الجيد من الرديء لأنها كانت مركوزة  في طبائعهم لذلك لم يحتاجوا إلى تدوينها على حد قول بهاء الدين السبكي في كتابه عروس الأفراح 1/53.  ويعلل الزركشي صاحب كتاب البرهان في علوم القرآن عدم تدوين البلاغة في صدر الإسلام بأن القصد من إنزال القرآن الكريم تعليم الحلال والحرام وتعريف شرائع الإسلام وقواعد الإيمان ، ولم يقصد منه تعليم طرق الفصاحة ، وإنما جاءت الفصاحة لتكون معجزة ، وكانت معرفتهم بأساليب البلاغة مما لا يحتاج إلى بيان ، بخلاف استنباط الأحكام ، فلهذا تكلموا في الثاني دون الأول  2/132.

البلاغة في عصر بني أمية
في عصر بني أمية كثرت الملاحظات النقدية كثرة عظيمة عملت فيها بواعث وأسباب كثيرة منها تحضر العرب واستقرارهم في المدن والأمصار ، وازدهار العلوم ورقيها مما أدى إلى رقي الحياة العقلية للأمة الإسلامية .حيث أخذوا يتجادلون في جميع شؤونهم السياسية والعقدية فكان هناك الخوارج والشيعة والزبيريون والأمويون ، والمرجئة والقدرية والمعتزلة ، فكان طبيعياً أن ينمو النظر في بلاغة الكلام وأن تكثر الملاحظات البيانية المتصلة بالكلام لا في مجال الخطابة والخطباء فحسب ، بل وفي مجال الشعر والشعراء بل لعل المجال الثاني كان أكثر نشاطاً لتعلق الشعراء بالمديح وتنافسهم فيه .
وفي هذا العصر نشطت حركة النقد سواء في مجال مجالس الخلفاء والولاة أو في الأندية الأدبية كسوق المربد في البصرة وسوق الكناسة في الكوفة حيث كان الشعراء يجتمعون في هذه الأسواق لينشدوا الناس خير ماصاغوه من الشعر .
وإليك بعض الأمثلة التي توضح ذلك:
من ذلك ما يقال من أن ذا الرمة كان ينشد بسوق الكناسة في الكوفة إحدى قصائده فلما وصل إلى قوله :
إذا غير النأي المحبين لم يكد        رسيس الهوى من حب مية يبرح
صاح به ابن شبرمة : أراه قد برح وكأنه لم يعجبه التعبير بقوله لم يكد ، فكف ذو الرمة ناقته بزمامها وجعل يتأخر بها ويفكر ثم عاد فأنشد .
النأي إذا غيّر المحبين لم أجد ....
ومن ذلك أيضاً أنه اجتمع الكميت ونصيب وذو الرمة ، فأنشدهما الكميت ما قال حتى بلغ قوله :
أم هل ظعائن بالعلياء نافعة       وإن تكامل فيها الأنس والشنب
عقد نصيب واحدة : فقال له الكميت ماذا تحصى ؟ قال : خطأك باعدت بين الأنس والشنب .
فنصيب ينقد الكميت لأنه جمع بين أمرين لا يجتمعان في الخارج ولا في الذهن . وهو بما يعرف بمراعاة النظير .
ومن ذلك ما روي عن الحجاج حين أنشدته ليلى الأخيلية قولها :
إذا ورد الحجاج أرضاً مريضةً  ***    تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها  ***  غلام إذا هزّ القناة ثناها
فقال لها الحجاج لا تقولي غلام ، ولكن قولي همام .
لأن لفظ الغلام يشعر بالصبوة والنزق والجهل .
ومن ذلك ما روي عن عبد الملك بن مروان حين مدحه عبد الله بن قيس الرقيات بقصيدة منها قوله.
يأتلق منها التاج فوق مفرقة ***  على جبين كأنه الذهب
فغضب عبد الملك وقال له : قد قلت في مصعب بن الزبير :
إنما مصعب شهابه من الله   ***   تجلت عن وجهه الظلماء
فأعطيته المدح بكشف الغمم وجلاء الظلم وأعطيتني من المدح مالا فخر فيه وهو اعتدال التاج فوق جبيني الذي هو كالذهب في النضارة
ومن ذلك ما روي عن ذي الرمة حين أنشد هشام بن عبد الملك قصيدته التي مطلعها :
ما بال عينيك منها الماء ينسكب فزجره هشام وقال له بل عينيك . فهشام عاب على ذي الرمة قوله لعدم مراعاته المقام ، وهو ما يعرف لدى البلاغيين ببراعة الاستهلال .
ولعلّ في كل ما قدمنا من الأمثلة ما يدل على أن الملاحظات البيانية في العصور القديمة جاهلية وإسلامية لم تغب عن أذهان البلاغيين حين أصّلوا قواعد البلاغة، وهي بحق تعد الأصول الأولى لقواعدهم .



البلاغة في العصر العباسي


تطورت البلاغة العربية وإزدهرت بمجئ الإسلام، ثم ازدادت كما وكيفما باتساع الرقعة الإسلامية ، وما شهدته فى جميع مناصب الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية والأدبية.
57 ). ودخل الناس فى دين الله أفواجا واختلطت الأجناس العربية : (أبو الرضا، 1984
بغيرها من الفرس، واحتكت بأجناس من الهند، وغيرهم من الوافدين على الدولة الإسلامية من تجار ودارسين. وتنوعت روافد الفكر من ترجمات ونقولات فى مكان له أثر فى مجال البلاغة العربية، فظهرت الدراسات التى تخدم القرآن الكريم، ودراسات فى الإعجاز القرآنى (19: وغيرها من الدراسات. (أبو على، 1991
وكذلك اشتهر العديد من العلماء فى مجال البلاغة ممن كان لهم باع كبير نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: عبد الله بن المقفع (ت، 143 ه) الذى اشتهر فى الكتابة والتأليف والترجمة وله آراء عظيمة فى البلاغة.
أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمى (ت، 210 ه) صاحب كتاب "مجاز القرآن" الفراء وهو أبو زكريا بن عبد الله صاحب كتاب "معانى القرآن" (ت، 207 ه)، الجاحظ (ت، 255 ه) صاحب كتاب "البيان والتبيين" والخطابى (ت، 388 ه) صاحب كتاب "إعجاز القرآن" وغيرهم كثيرون أمثال ابن المعتز، والرمانى، وأبو هلال العسكرى.
وبعد ذلك ازدهرت الدراسات البلاغية ازدهارا كبيرا، فى العصر العباسى الثانى وذلك فى
القرن الخامس الهجرى، وذلك على يد عبد القاهر الجرجانى المتوفى عام ( 471 ه) صاحب كتابى"دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة".
وكذلك هناك الزمخشرى صاحب كتاب "الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل" (ت، 538 ه). واهتم الزمخشرى بعلمى المعانى والبيان، وجعل لكل منهما مباحثه الخاصة به. وفى القرن السابع الهجرى اشتهرعلى بن ظافر المصرى، والسكاكى، وابن الاثير، وحازم القرطاجنى.
وفى القرن الثامن، اشتهر الطيبى والزركشى. وفى القرن التاسع، اشتهر النواجى. وفى .(1996 : القرن العاشر، السيوطى. وفى القرن الحادى عشر، يوسف البديعى. (عبد الله 46

البحث البلاغي نشأته وتطوره
بدأ التأليف في علوم البلاغة مع بداية مرحلة التأليف في العلوم الإسلامية في منتصف القرن الثاني للهجرة ، وقد مرت البلاغة عبر رحلتها الطويلة بثلاث مراحل .
المرحلة الأولى : مرحلة النشأة والنمو .
نزل القرآن الكريم ليكون كتاب هدية ودستور حياة يهدي للتي هي أقوم وليكون معجزة للعالمين ودليلاً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون في عصر صدر الإسلام يعتمدون على طبعهم الأصيل في معرفة وإدراك إعجاز القرآن ، كما كانوا يعتمدون على طبعهم وذوقهم السليم في معرفة ضروب الكلام وتفضيل شاعر على آخر .
ثم انتشر الإسلام واتسعت رقعة الدولة الإسلامية وكثر عدد الداخلين في الإسلام أخذت هذه العناصر تمتزج بالعرب امتزاجا قوياً كان له أثره الكبير على اللغة العربية حيث أخذ الذوق العربي ينحرف وبدأت الملكات تضعف والإحساس ببلاغة الكلام يقل . وفشا اللحن على الألسنة . حينئذ ظهر العلماء فقاموا بوضع قواعد النحو والصرف , يدفعهم إلى ذلك حرصهم على لغة القرآن الكريم فظهرت لذلك كتب عديدة اهتمت بالعربية , بالإضافة إلى الإشارة إلى بعض الملاحظات البلاغية التي كانت مبثوثة في تضاعيف هذه الكتب وبذلك بدأت البلاغة رحلتها ، ومن أهم هذه الكتب :
كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 210 وقد كان أبو عبيدة من أوسع أهل البصرة علماً باللغة والأدب، والنحو، وأخبارها وأيامها.
سبب تأليفه لهذا الكتاب:  تروي كتب الأدب أن الفضل بن الربيع وزير الرشيد استقدم أبا عبيدة من البصرة لحضور مجلسه, فلما حضر إلى المجلس، سأل إبراهيم بن إسماعيل الكاتب أبا عبيدة عن قوله تعالى ( طلعها كأنه رؤوس الشياطين ) وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله ، وهذا لم يعرف , فقال أبو عبيدة إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم أما سمعت قول أمريء القيس
أيقتلني والمشرفي مضاجعي  ***   ومسنونة رزق كأنياب أغوال .
وهم لم يروا الغول قط ، ولما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به, فا ستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل ، وأزمع أبو عبيدة عند ذلك أن يضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه . وكلمة مجاز ليس المراد بها المعنى الاصطلاحي المعروف عند البلاغيين لهذه الكلمة وإنما تعني الطريق أو المعبر .
فكتاب أبي عبيدة ليس كتاباً بلاغياً وإنما هو كتاب في التفسير حيث فسر فيه الألفاظ القرآنية بما ورد مثلها في كلام العرب , وفي معرض تفسيره لآيات القرآن الكريم نثر بعض الملاحظات البلاغية , وأشار إلى بعض مسائلها كالإيجاز والإطناب والتقديم والتأخير دون تسمية لها ، كما أشار إلى خروج بعض الأساليب الإنشائية عن دلالتها الأصلية إلى بعض المعاني كالاستفهام والأمر والنهي ، كما تحدث عن الالتفات ، والتشبيه وتعرض للمجاز العقلي من غير تسمية له وإنما أشار إلى بعض شواهد ه التي أفاد منها البلاغيون فيما بعد .
ثم جاء بعده الفراء المتوفى سنة 207 هـ ووضع كتابه معاني القرآن , والفراء هو أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء ،كان من أعلم أهل الكوفة بالنحو واللغة وفنون الأدب .
وكتاب معاني القرآن يعالج المشاكل التي عالجها أبو عبيدة غير أن ثقافته النحوية قد ظهرت في كتابه بوضوح ، فهو يشرح بعض ألفاظ القرآن وبعض الأساليب البيانية والتراكيب الإعرابية ويرد كل ذلك إلى مذاهب العرب , وقد نثر في تضاعيف هذا الكتاب بعض الملاحظات البلاغية فقد أشار إلى الإيجاز، وأشار إلى بعض صور الإطناب وبيّن الغرض البلاغي منها ، وتحدث عن التقديم والتأخير ، ولاحظ خروج الاستفهام و الأمر والنهي عن دلالتها الأصلية إلى معان بلاغية , ووقف عند صور المجاز العقلي ومثل له من القرآن ومن كلام العرب دون تسمية له ، كما عرف التشبيه وبيّن أركانه من المشبه والمشبه به والأداة ووجه الشبه ، وعرض للمشاكلة دون تسمية لها .
ثم جاء القرن الثالث للهجرة فكثرت الفرق الإسلامية واشتد الخلاف فيما بينها، وأخذ الإسلام وكذلك العرب يواجه بحملة تشكيك وطعن , واتجهت أنظار الطاعنين نحو القرآن ترميه باللحن وفساد النظم , فانبرى العلماء يدافعون عن العرب والإسلام , ومن بين هؤلاء المدافعين الجاحظ الذي ألف كتابه البيان والتبيين الذي دافع فيه عن العرب ضد الشعوبيين , وفي هذا الكتاب أشار إلى بعض الفنون البلاغية كالاستعارة والتشبيه والكتابة والإيجاز والإطناب .
وعرّف البيان بقوله : " اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون الضمير " كما أشار إلى أن البديع من خواص العرب ، ومنه الاستعارة والتشبيه والكناية ، كما ذكر موضوعات أخرى كبراعة المطلع والمقطع والسجع والاقتباس وغير ذلك .
وهذه الفنون البلاغية التي ذكرها الجاحظ مبثوثة في تضاعيف الكتاب لاتوجد إلا بالتأمل الطويل والتصفح الكثير .
وعلى أيه حال فالجاحظ من الذين أسهموا في وضع أسس البلاغة في هذه الفترة .
ابن قتيبة :- هو أبو محمد عبد الله بن قتيبة الدينوري 276هـ وهو من تلاميذ الجاحظ والمعاصرين له , ألف كتابه  مشكل القرآن رد فيه على الطاعنين في لغة القرآن وأسلوبه .
وقد تحدث فيه عن العرب وما خصهم الله به من قوة البيان ، وتحدث عن وجوه إعجاز القرآن ، كما أشار إلى المجاز والاستعارة والقلب والاختصار في الكلام والزيادة فيه ، والكناية , ومخالفة ظاهر اللفظ معناه .
ويتميز بن قتيبة عن سابقيه بأنه قد وضع لكل لون من هذه الألوان باباً يخصه، ويحثه في ذلك بحث أدبي ليس فيه التقسيم وتحديد المصطلحات .
المبرد : هو أبو العباس محمد بن يزيد المبرد المتوفي في سنة 285هـ ألف  كتابه الكامل في اللغة والأدب وقد نثر فيه كثيراً من مسائل البلاغة , وعقد فيه للتشبيه باباً بدأ فيه بعرض كثير من التشبيهات الرائعة في شعر العرب ، وقسم التشبيه إلى أربعة أقسام هي تشبيه مفرط ، مصيب , مقارب ، بعيد .
كما تحدث عن الاستعارة والكناية والالتفات والإيجاز والإطناب وغير ذلك بعد ذلك أخذت هذه الكتب تميل إلى التخصص من ذلك الكتاب البديع للشاعر الخليفة العباس عبد الله بن المعتز المتوفى سنة 296هـ وكتاب البديع له قيمة كبيرة في تاريخ البلاغة إذ كان خطوة في تطورها وتقدمها وبخاصة في ميدان علم البديع فقد استقل بذكر أنواعه وفنونه , والبديع عنده يختلف عن ما عرف لدى المتأخرين من علماء البلاغة بأنه علم يعرف به وجوه تحسين الكلام وإنما كان البديع عنده عاماً يتناول كثيراً من فنون البلاغة كالاستعارة والكناية والتشبيه والمطابقة والجناس ، وقد دعاه إلى تأليف هذا الكتاب تعريفه الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أنواع البديع .
وقد قسم كتابه إلى قسمين : الأول البديع وحصره في خمسة فنون هي : الاستعارة , التجنيس ، المطابقة , ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها ، والمذهب الكلامي .
الثاني محاسن الكلام والشعر ، وذكر أنها كثيرة لا ينبغي لعالم الإحاطة بها ، وحصرها في ثلاثة عشر فناً منها الالتفات والتعريض والكناية ، والتشبيه وتجاهل العارف والمبالغة والإفراط إلى غير ذلك .
ثم جاء بعده قدامة بن جعفر المتوفى سنة 337 هـ الذي ألف كتابه نقد الشعر بين فيه أن الذي دفعه إلى تأليف هذا الكتاب هو تقصير العلماء وقعودهم عن التأليف في النقد ووضع كتاب فيه مع أنه أهم علوم الشعر وأولاها بالعناية .
ثم لما اشتدت الخصومة النقدية بين العلماء حول بعض شعراء العربية ظهرت كتب نقدية توازن بين هؤلاء الشعراء من ذلك كتاب الموازنة لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي وزان فيه بين شعر البحتري وأبي تمام ، وكتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي على بن عبد العزيز الجرجاني 366 .
وفي هذين الكتابين إشارات كثيرة إلى بعض الفنون البلاغية  كالاستعارة والتشبيه والكناية والتجنيس والمطابقة .
ثم توالت الكتب والمؤلفات التي تحمل في ثناياها مادة بلاغية ضخمة أفاد منها الإمام عبد القاهر والبلاغيون من بعده في إرساء قواعد البلاغة وبناء صرحها .
منها كتاب سر الفصاحة لابن سنان , وتلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي , وإعجاز القرآن الباقلاني , والنكت في إعجاز القرآن للرماني والعمدة لابن رشيق القيرواني وغير ذلك .
المرحلة الثانية :مرحلة نضج البلاغة واكتمالها
اكتمل صرح البلاغة على يدي الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي وضع نظريتي علم المعاني وعلم البيان في كتابيه دلائل الإنجاز وأسرار البلاغة .
فلعبد القاهر مكانة عظيمة في تاريخ البلاغة حيث دوت شهرته  في الآفاق وذلك لما امتاز به عن سابقيه بأنه جمع ما تفرق قبله من علوم البلاغة, واستطاع بذكائه وثاقب نظره وضع قواعد البلاغة وبناء صرحها على أساس متين من الأصول والقوانين التي استقرت بشكل متكامل وفي إطار شامل مدعماً ذلك بالشواهد والأمثلة الكثيرة التي ساقها في بيان عذب وأسلوب بليغ، فلم يكتف عبد القاهر في كتابيه بتعقيد القواعد وتقنينها , بل حرص مع ذلك على ضرب الأمثلة حتى تتضح فنون البلاغة حق الوضوح وتتمثل في الأذهان خير تمثل .
فعبد القاهر هو مؤسس البلاغة الذي وضع أصولها وأرسى قواعدها ولم يحدث بعده أي تغيير يذكر في علم المعاني والبيان لأنه استطاع أن يستنبط من ملاحظات البلاغيين قبله كل القواعد البلاغية فيهما .
ولقد فتن البلاغيون بعبد القاهر وعلمه الغزير فراحوا يرددون كلامه ويقفون عنده ولا يتجاوزنه ، وأصبح لكتابيه مكانة مرموقة جعلت كل من جاء بعده يعتمد عليها ويقتبس من مسائلها ويدور في فلكها لا يحيد عنها .
وعلى كل يعد كتابا عبد القاهر كتابين عظيمين حيث أصبحت فنون البلاغة فيهما ذات كيان خاص , بعد أن كانت قبلها مبعثرة في كتب اللغة والأدب والنقد وإعجاز القرآن ، وقد ضمنهما مؤلفهما علماً دقيقاً غزيراً ,بنى بهما للبلاغة صرحاً عالياً , وأصبح بسببهما إماماً عظيماً .
ثم جاء بعبد القاهر جارالله محمود بن عمر الزمخشري 538 الذي قام بدراسة ما كتبه عبدا لقاهر في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة واستطاع أن يهضم ما فيهما , ويتمثلهما خير تمثيل , وأن يطبق ذلك كله في كتابه الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، الذي اهتم فيه بيان الأسرار البلاغية في القرآن , وبإظهار إعجازه عن طريق بيان وفاء دلالته على المراد مع مراعاته مقتضيات الأحوال , ويكشف ما فيه من خصائص التصوير ولطائف التعبير في البيان القرآني .
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يعد من كتب التفسير فإنه يعد في الوقت  ذاته من كتب البلاغة لأنه مليء بمسائلها ولطائفها .
المرحلة الثالثة : مرحلة التقنين والتعقيــــد :
تبدأ هذه المرحلة بظهور أبي يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة 626هـ الذي اهتم بالفلسفة والمنطق , فقام بتقنين قواعد البلاغة مستعيناً في ذلك بقدراته المنطقية على التعليل والتعريف والتفريع والتقسيم ، وبذلك تحولت البلاغة على يديه إلى مجرد قواعد وقوانين صيغت في قوالب منطقية جافة باعدت بينها وبين وظيفتها من إرهاف الحس وإمتاع النفس وتربية الذوق وتنمية الملكات .
وقبل السكاكي ظهر فخر الدين الرازي فهو من أوائل من اتجهوا إلى الاختصار والتخليص فهو يعد مرحلة انتقالية , حيث اهتم بإدخال المنطق والفلسفة في علوم البلاغة , حيث قام بتلخيص كتابي عبد القاهر في كتابه نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز .
وشهرة السكاكي تعود إلى القسم الثالث من كتابه مفتاح العلوم الذي جعله لعلم المعاني وعلم البيان وملحقاتها من الفصاحة والبلاغة ، والمحسنات اللفظية والمعنوية , وقد نال هذا الكتاب شهرة فائقة في ميدان البلاغة حيث فتن به العلماء إلي حد جعلهم ينسون أنفسهم وينكرون ملكاتهم , ولهذا ظلوا قروناً عديدة- ابتداء من القرن السابع الهجري والى القرن الماضي - عاكفين على دراسته وشرحه وتلخيصه حتى لكأنه لم يؤلف في البلاغة كتاباً غيره , فاستأثر باهتمامهم وعنايتهم, وقد أخذ رجال هذه المدرسة وعلماؤها يعمدون في دراساتهم البلاغية على النظريات والتقسيمات والقواعد والتعريفات التي أصبحنا نراها شائعة في مصنفاتهم من الشروخ والحواشي والتقارير ونحوها التي صنفت على هدي كتاب السكاكي والقزويني .
فمن الذين قاموا بشرح مفتاح العلوم للسكاكي عدد كبير من العلماء منهم قطب الدين الشيرازي 710هـ في كتاب سماه مفتاح المفتاح ، ومظفر الخلخالي 745 هـ في كتابه شرح المفتاح ، والسيد الشريف الجرجاني 816هـ وابن كمال باشا 940هـ ألف شرح المفتاح، وممن عنوا بتلخيصه :
بدر الدين مالك 668هـ أختصره في كتاب المصباح في المعاني والبيان والبديع , وجلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني 739هـ سماه تلخيص المفتاح , وعبد الرحمن الشيرازي 756هـ في كتابه الفوائد الغياثية , ولعل أشهر هذه الشروح وأوسعها شهرة بين العلماء في  المشرق كتاب تلخيص المفتاح للقزويني , وهذا الكتاب بدوره حظي لدى العلماء باهتمام بالغ فمنهم من شرحه ومن لخصه ، ومنهم من نظمه .
فممن شرحه بهاء الدين السبكي في كتابه عروس الأفراح في شرج تلخيص المفتاح  , وابن يعقوب المغربي 1110  في كتابه مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح ، والخلخالي في كتابه مفتاح تلخيص المفتاح ، وسعد الدين التفتازاني وضع له شرحين المختصر والمطول ,  وممن نظمه شعراً جلال الدين السيوطي المتوفي سنة 911 هـ في  كتابه عقود الجمان ، وعبد الرحمن الأخضري سمي نظمه الجوهر المكنون في الثلاثة فنون ، وغيرهم كثير ، ولاتزال خزائن الكتب والمخطوطات تضم في جنباتها عدداً كبيراً من الكتب التي دارت حول شرح مفتاح العلوم أو حول كتاب التلخيص للقزويني .
فكل من جاء بعد السكاكي سار على نهجه ونسج على منواله لأنها لاتخرج عن كونها ترديدا وتكراراً لمادته ، فهي محاولات قصد بها الإيضاح والتبسيط عن طريق الإيجاز والتلخيص, وإذا هي من حيث لا يدري أصابها قد زادت المفتاح صعوبة على صعوبة .
ولا شك أن هذه الشروح والتلخيصات والمنظومات تدل على عناية أصحابها منذ عصر السكاكي وما بعده بالمناقشات العلمية والمماحكات اللفظية دون العناية بتربية الذوق ففقدت البلاغة بذلك هدفها الرئيس .
وعلى أية حال هذه الكتب التي صنفها العلماء أرادوا بها خدمة البلاغة والنقد إلا أنها عجزت عن أن تعلم نقداً أو بلاغة , وهي بلا شك دالة على عناية أصحابها بمسائل العلم وتوسيع القول فيه , وإن كانوا في الوقت نفسه عاجزين على القدرة  على التجديد والابتكار.
وإذا أردنا أن نقارن ما كانت عليه البلاغة العربية في عصورها الزاهية وخاصة في عصر عبد القاهر وبين ما صارت إليه في  العصور المتأخرة نرى أن البلاغة قد ازدهرت واكتمل صرحها وتوهجت شعلتها على أيدي علمائها الأوائل الذين قاموا بإحيائها وإرساء معالمها , ثم نرى كيف جفت وذبلت وخبت شعلتها على أيدي علماء البلاغة المتأخرين على يد السكاكي ومن سار على نهجه واحتذى حذوه .
وقد ظل هذا حال البلاغة تزداد مع الأيام ضعفاً وبعدا عن هدفها المنشود حتى قيض لها من علماء العرب في العصر الحديث من قام بإحيائها فأعاد للبلاغة وجهها الناصع الناضر.

مفھوم البلاغة والفصاحة
مفھوم البلاغة في اللغة
إن المدلول اللغوي لمادة (بَلغَ) ینتھي في الغالب إلى أمرین: أولھما الوصول والانتھاء، والآخر: الحسنوالجودة، وقد أورد صاحب اللسان من ذلك: " بلغ الشيء یبلغ بلوغا وبلاغا وصل وانتھى، وأبلغه  ھو إبلاغا،ًوبلغَّه  تبلیغا،ً ومنھا  قول أبي قیس بن الأسلت السلمي:
قالت ولم تقصد لقیل الخني ***  مھلًا فقد أبلغْتَ أسماعي
أي: قد انتھیت فیه  وأنعمت، وتبلغَّ بالشيء: وصل إلى مراده، وبلغ مبلغ فلان ومبلغته ، وفي حدیث الاستسقاء: "واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حین" والبلاغ ما یتُبَلغَّ بھا  ویتُوصل به  إلى الشيءالمطلوب... وبلغتِ النخلة وغیرھا من الشجر: حان إدراكُ ثمرھا. وشيٌء بالغ، أي جید، وقد بلغ في الجودةمبلغا.ً.. والبلاغة: الفصاحة، والبَلغْ والبلِغْ: البلیغ من الرجال، ورجل بلیغ: حسن الكلام فصیحة یبلغ بعبارة(لسانه  كْنَه  ما في قلبه ، والجمع بلُغَاء، وقد بلغُ بالضم بلاغة أي صار بلیغا)"ً.
كما احتملت المادة في القرآن الكریم معني الإیجاز في قوله  تعإلى:( ھَذا بَلاٌغ للِّنَّاسِ ولیِنُذَروا بھِا [إبراھیم 52 ]، والإیضاح والفصاحة والبیان في قولھ تعإلى : (ھْل علىَ الُّرُسِل إلَّا البَلاُغ الُمبیِن). التغابن 12 ، والتأثیر في نفوس المخاطبین في قولھ تعإلى: (وقلُ لھَّمُ فيِ أنَفسُھْم قَوْلًا بَلیِغا) [النساء 63
مفھوم البلاغة في الاصطلاح
أما مصطلح البلاغة فقد استمد مفھومھا  الفني من ذلك الاستعمال اللغوي، وقد مر خلال رحلته  في تاریخ العلم بأطوار ثلاثة أخذت تتعاوره من العموم إلى الخصوص حتى استبانت لھا حقولھا ورسمت حدوده على یدالإمام السكاكي (ت 626 ھ) ولاحقیه .
الطور الأول: ویمكن تسمیته  بطور المفھوم الفني العام حیث كان مصطلح البلاغة یطلق على كل ما من شأنھا توصیل المعنى والانتھاء بھا إلى المتلقي.
وقد حوت المصادر البلاغیة جملة وافرة من تعریفات البلاغة التي تجري على ھذا النحو ، منھا مایعني بتفسیر وظیفتھا كقول على بن أبي طالب (ت 40 ھ) "البلاغة إفصاح قول عن حكمة مستغلقة، وإبانةعن شكل"، وقول الحسن بن على(ت 42 ھ) "البلاغة: إیضاح الملتبسات وكشف عوار الجھالات بأسھل مایمكن من العبارات"، وقوله  أیضا:ً "البلاغة تقریب بعید الحكمة بأسھل العبارة"، أو قول محمد بن على([ (ت 125 ھ): "البلاغة قول مْفقَه  في لطُف."
ومنھا ما یتعلق بغایات عقدیة أو جدلیة كقول ابن المقفع (ت 134 ھ)" البلاغة: كشف ما غمض من الحق، وتصویر الحق في صورة الباطل ([ 3])، كما فسرھا عمرو بن عبید (ت 123 ) في مقاولة بینه  وبین آخر بقوله :" كأنك إنما ترید تخیر اللفظ في حسن إفھام" ثم قال " إنك إذا أوتیت تقریر حجة لله في عقولالمكلفین، وتخفیف المئونة على المستمعین، وتزیین تلك المعاني في قلوب المریدین بالألفاظ المستحسنة في الآذان، المقبولة عند الأذھان رغبة في سرعة استجابتھم، ونفي الشواغل عن قلوبھم بالموعظة الحسنة على(الكتاب والسنة، كنت قد أوتیت فصل الخطاب، واستحققت على الله جزیل الثواب". )
ومن ھذه التعریفات ما یبرز الجوانب الأسلوبیة في الكلام على مستوي الإفراد أو التراكیب، من ذلك ما أجاب به  صُحار بن عباس العبدي (ت 40 ھ) حین سأله  معاویة:" ما تعدون البلاغة فیكم؟ قال: الإیجاز.
(قال له : وما الإیجاز؟ قال صُحار: أن تجیب فلا تبطىء، وتقول فلا تخطىء".([ 5
أو قول ابن المقفع (ت 134 ھ): "البلاغة اسم جامع لمعاٍن في وجوه كثیرة، فمنھا ما یكون في السكوت، ومنھا ما یكون في الاستماع، ومنھا ما یكون في الإشارة، ومنھا ما یكون جوابا،ً ومنھا ما یكون سجعا وخطبا،ً ومنھا ما یكون في رسائل، فعامة ما یكون من ھذه الأبواب الوحي فیھا والإشارة إلى المعني،([ والإیجاز ھو البلاغة" ([ 6
وینقل ابن المدبر عن الخلیل بن أحمد (ت 170 ھ) في ذلك قوله : "كل ما أدي إلى قضاء الحاجة فھوبلاغة، فإن استطعت أن یكون لفظك لمعناك طبقا،ً ولتلك الحال وفقا،ً وآخر كلامك لأوله  مشابھا،ً ومواردهل مصادره موازنا فافعل، واحرص على أن تكون لكلامك مَّتِھما وإن طُرف، ولنظامك مستریبا وإن([ لطُف،بمواتاة آلتك لك، وتصرف إرادتك معك". (7
أما الطور الثاني: فیتضح بدخول مصطلح (البلاغة) حیز التألیف، واختیاره عنوانا لبعض الرسائل أوالكتب، وذلك لا یعنى بوجه  من الوجوه دخول مصطلح البلاغة إلى حیز اختصاصھا  بمعارف معینھا على نحو مانراه في طوره الأخیر، حیث ظلت موضوعات البلاغة حتي ذلك العھد تتعاورھا على غیر ترتیب اتجاھات متعددة في تفسیر القرآن وشروح الشعر كما تعاورھا مصطلح (البیان) عند الجاحظ حینا،ً ومصطلح (البدیع) عندابن المعتز وغیره حینا آخر.
وقد حاول ابن وھب الكاتب (ت 272 ھ) أن یعرف البلاغة على نحو یخالف الجاحظ (ت 255 ھ)فقال"وقد ذكر الناس البلاغة ووصفوھا بأوصاف لم تشتمل على حدھا، وذكر الجاحظ كثیرا مما وصفت به ،وكل وصف منھا یقصر عن الإحاطة بحدھا" ثم قال " وحدھا عندنا: " القول المحیط بالمعنى المقصود، معاختیار الكلام وحسن النظام وفصاحة اللسان" وإنما أضیف إلى الإحاطة بالمعنى اختیار الكلام؛ لأن العامي قد یحیط قوله  بمعناه الذي یریده، إلا أنه  كلام مرذول من كلام أمثالھا ، فلا یكون موصوفا بالبلاغة، وزدنافصاحة اللسان، لأن الأعجمي واللحَّان قد یبلغان مرادھما بقولھما فلا یكونان موصوفین بالبلاغة، وزدناحسن النظام؛ لأنه  قد یتكلم الفصیح بالكلام الأتي على المعنى، ولا یحسن ترتیب ألفاظه ، وتصییر كل واحدة([ منھا مع ما یشاكلھا، ولا یقع ذلك موقعه ..".([ 8وكان لمحمد بن یزید المبرد (ت 285 ھ) في ذلك رسالة صغیرة سماھا (البلاغة) أجاب فیھا عن مسألةأحمد بن الوثق: أي البلاغتین أبلغ: أبلاغة الشعر أم بلاغة النثر؟ فقال المبرد:"إن حق البلاغة إحاطة القول بالمعني، واختیار الكلام، وحسن النظم، حتى تكون الكلمة مقاربة أختھا،ومعاضدة شكلھا، وأن یقرب بھا البعید، ویحذف منھا الفضول. فإن استوي ھذا في الكلام المنثور والكلام المرصوف، المسمي شعرا،ً فلم یفضل أحد القسمین صاحبھا ، فصاحب الكلام المرصوف أحمد، لأنه  أتيبمثل ما أتي بھا  صاحبھا ، وزاد وزنا وقافیة، والوزن یحمل على الضرورة، والقافیة تضُّطر إلى الحیلة،وبقیت بینھما واحدة، لیست مما توجد عند استماع الكلام منھما، ولكن یرجع إليهما عند قولھما، فینظر أیھما([ أشد علي الكلام اقتدارا،ً وأكثر تسُّمحا،ً وأقل معاناة، وأبطأ معاسرة، فیعلم أنه  المقدَّم".([ 9
وإذا كان مصطلح البلاغة في ھذه الرسالة لا یعني العلم المعروف، فبوسعنا القول إن المبرد كان أول.([ من أطلق (البلاغة) علي بعض رسائله ([ 10
أما الرماني أبو الحسن على بن عیسي (ت 386 ھ) فقد كانت البلاغة عنده ھي " إیصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ" وجعلھا في ثلاث طبقات، منھا ما ھو في أعلى طبقة، ومنھا ما ھو فيأدني طبقة، ومنھا ما ھو في الوسائط بین أعلى طبقة وأدني طبقة، فما كان في أعلاھا طبقة فھو معجز، وھوبلاغة القرآن، وما كان منھا دون ذلك فھو ممكن، كبلاغة البلغاء من الناس، وقَّسمھا إلى عشرة أقسام:
([ الإیجاز والتشبیه  والاستعارة والتلاؤم والفواصل والتجانس والتضمین والمبالغة وحسن البیان".( 11
ویتلاقي مصطلح ( الفصاحة) مع ( البدیع) و(البیان) في الدلالة على مفھوم (البلاغة) حیث یري أبوھلال العسكري (ت 395 ھ) أنھا سمیت بلاغة" لأنھا تنُھي المعنى إلى قلب السامع فی فھمھا " كما أبدى رأیهفي تعریفھا وَحَّدھا بقوله "البلاغة كل ما تبلغ بھا  قلب السامع فتمُكنھا  في نفسه  كتمُّكنھا  في نفسك، مع صورةمقبولة وَمْعَرض حسن"، وھو إذ ذاك لا یفرق بین مصطلح (البلاغة) ومصطلح (الفصاحة): " فأما الفصاحة فقد قال قوم إنھا من قولھم: أفصح فلان عما في نفسه  إذا أظھره، والشاھد على أنھا ھي الإظھار قول العرب:
أفصح الصبح إذا أضاء... وإذا كان الأمر على ھذا، فالفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد، وإن([ اختلف أصلاھما؛ لأن كل واحد منھما ھو الإبانة عن المعني والإظھار له ".([ 12
وممن ذھب ذلك المذھب، الإمام عبد القاھر الجرحاني (ت 476 ھ) في كتابیه  (دلائل الإعجاز)
و(أسرار البلاغة، فلا نجده یفرق بین البلاغة أو البیان أو الفصاحة، ورأى أنھا تأتي عندھم مترادفة یعُّبر([ بھا " عن فضل بعض القائلین على بعض..."([ 13
وعبد القاھر یدرك ذلك ولكنه  لحظ أن ھذه الألفاظ تجري على ألسنة بعض المعتزلة وصفا للفظ دون المعني، فأخذ یحقق القول في ارتباط البلاغة والفصاحة والبیان بالمعني واللفظ معا في إطار عرضه لنظریة النظم على نحو سیتضح لك فیما بعد.
أما ابن سنان الخفاجي (ت 466 ھ) فقد رأي أن (الفصاحة) شطر (البلاغة) وأحد جزئیھا، فھي ترتبط بھا ارتباط الخاص بالعام، وذھب إلى أن " الفرق بین الفصاحة والبلاغة، أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني. لا یقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى یفضل عن مثلھا بلیغة، وإن قیل فیھا إنھا فصیحة، وكل كلام بلیغ فصیح، ولیس كل فصیح بلیغا،ً كالذي یقع ([ فیه  الإسھاب في غیر موضعه ". ([ 14
أما الطور الثالث من حیاة مصطلح (البلاغة) فیتصل بسبب إلى الإمام أبي یعقوب السكاكي (ت 626 ھ) الذي أخلص القسم الثالث من كتابه (مفتاح العلوم) لعلمي المعاني والبیان، ثم عَّرف البلاغةبقوله " ھي بلوغ المتكلم في تأدیة المعاني حدا لھ اختصاص بتوفیة خواص التراكیب حقھا، وإیراد أنواع التشبیه  والمجاز والكنایة علي وجھھا".
وھو بھذا یدخل مباحث علم المعاني وعلم البیان في صلب البلاغة، أما مباحث البدیع فقد جعلھا السكاكي وجوھا یؤتي بھا لتحسین الكلام ولیست من مرجعي البلاغة. وقد رأى أن للبلاغة طرفین" أعلى وأسفل متباینان تباینا لا یتراءى لھا نارھما، وبینھما مراتب تكاد تفوت الحصر متفاوتة، فمن الأسفل تبتدئ البلاغة، وھو القدر الذي إذا نقص منھا شيء التحق ذلك الكلام بما شبھناه في صدر الكتاب من أصوات الحیوانات، ثم تأخذ في التزاید متصاعدة إلى أن تبلغ حد الإعجاز، وھو الطرف الأعلى وما یقرب([ منھا ".([ 15
ثم ینتھي ذلك الطور إلى ابن الناظم، بدر الدین بن مالك (ت 686 ھ) في كتابه  (المصباح) الذي سارفیه  علي مذھب السكاكي، في تعریف البلاغة، وتحدید حقولھا، ومباحثھا، فجعل كتابه  ثلاثة أقسام:
الأول: یعرف منھا الاحتراز عن الخطأ في كیفیة التراكیب، في الإفادة لتمام المراد من المعنى، وفي دلالة المركب على قید من قیودھا ([ 16 ]) وھو علم المعاني.
الثاني: یعرف منھا الاحتراز عن الخطأ في التركیب مما دلالته  غیر وافیة بتمام المراد من وضوح الدلالة أو خفائھا، وھو علم البیان.
الثالث: تعرف منھا توابع البلاغة من طرق الفصاحة وھو علم البدیع ([ 17 ]) وبالرغم من وضوح ھذه البدیھة في حساب التاریخ، فإن كثیرا من مؤرخي البلاغة ینسبونھا إلى الخطیب القزویني (ت 739 ھ)،
ویبدو أن لشھرتھا أثرا في طمس ھذه الحقیقة بعد ما ذاع صیت كتابه  (تلخیص المفتاح) الذي ملأ الدنیاوشغل الناس، فعكفوا على دراسته ، وشرحه  شروحا كثیرة؛ حتي انتھي إلیھا  تعریف البلاغة وتحدید علومھاومباحثھا.
وقد مَّیز القزویني بین بلاغة الكلام وبلاغة المتكلم، وذھب إلى أن "بلاغة الكلام ھي مطابقتھا لمقتضى الحال مع فصاحتھا، ومقتضي الحال مختلف، فإن مقامات الكلام متفاوتة، فمقام التنكیر یباین مقام التعریف،ومقام الإطلاق یباین مقام التقیید، ومقام التقدیم یباین مقام التأخیر، ومقام الذكر یباین مقام الحذف، ومقام القصر یباین مقام خلافھا، ومقام الفصل یباین مقام الوصل، ومقام الإیجاز یباین مقام الإطناب والمساواة،وكذا خطاب الذكي یباین خطاب الغبي، وكذا لكل كلمة مع صاحبتھا مقام... أما بلاغة المتكلم فھي ملكة یقتدر([ بھا على تألیف كلام بلیغ".([ 18
وبناء على فھمه  لمھمة البلاغة وتفرقته  بینھا وبین الفصاحة،أخذ القزویني یقسم البلاغة إلى علوم ثلاثة یختص كل منھا بمھمة ومباحث تؤدیھا؛ لأن "البلاغة في الكلام مرجعھا إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدیة المعني المراد، وإلى تمییز الكلام الفصیح من غیره، والثاني – أعني التمییز منه  ما یتبین في علم متن اللغة، أو التصریف، أو النحو، أو یدرك بالحس، وھو ما عدا التعقید المعنوي.
- وما یحُترز بھا عن الأول - أعني الخطأ في تأدیة المعني المراد - ھو علم المعاني.
- وما یحُترز بھا عن الثاني- أعني التعقید المعنوي - ھو علم البیان.
- وما یعُرف بھا وجوه تحسین الكلام - بعد رعایة تطبیقھا على مقتضى الحال وفصاحتھا - ھو علم البدیع.
وكثیر من الناس یسمي الجمیع (علم البیان)، وبعضھم یسمي الأول (علم المعاني). والثاني والثالث([ (علم البیان)، وبعضھم یسمي الثلاثة (علم البدیع).([ 19
وأیاًّ ما كان الأمر فقد انتھي الطور الأخیر من حیاة مصطلح (البلاغة) بمفھومھا العلمي وحقولھا المعرفیة المحددة إلى ما آل إلیھا عند الخطیب القزویني، بل ظل ھذا النھج یھیمن على درس البلاغة،ویواكب تداول الأیام والقرون حتى عصرنا الحاضر!
كما تتھَّیأ لنا غایة البلاغة، وندرك ثمرتھِا؛ حین نعرف أن الوعي بوسائل البلاغة وصور البیان یحُققِّ لصاحبھا غایتین اثنتین:
الغایة الأولى دینیة: تكمن في التعُّرف على أسرار الإعجاز القرآني "من جھة ما یختصُّ بھا – لما یقول أبو ھلال العسكري – من حسن التألیف، وبراعة التراكیب، وما شحنھا  بھا  من الإیجاز البدیع، والاختصاراللطیف. وضمنھا من الحلاوة، وجللَّھا من رونق الطلاوة، مع سھولة كلمھا وجزالتھا وعذوبتھا وسلاستھا، إلى([ غیر ذلك من محاسنھا التي عجز الخلق عنھا، وتحیَّرت عقولھم فیھا".([ 20
أما الغایة الأخرى فھي غایة أدبیة نقدیة: تجعل مْن تكونتْ فیھ ملكَة الإبداع یؤُثرِ سلامة التعبیر وحسن الصیاغة، ویتجنب الوقوع في دائرة الخلط والغموض. كما تمنح متذوق الأدب ونقادَه مقدرًة على التمییز بین الجید والردئ من نصوصھا، ومعیارا یقیسون بھا مدى حسنھا وقبحھا.
وقد عنىِ أبو ھلال العسكري (ت 395 ھ) أیضا بھِذه الغایة، فقال في مقدمة كتابه : "ولھذا العلم بعد ذلك فضائل مشھورة، ومناقب معروفة، منھا: أن صاحب العربیة إذا أخَّل بطلبھا، وفَّرط في التماسھا، ففاتته فضیلتھا، وَعلقِتْ بھا رذیلُة فوته ، عفى على جمیع محاسنھا، وعَّمى سائر فضائلھا؛ لأنھا إذا لم یفِّرق بین كلام جید وآخر ردىء، ولفظ حسن وآخر قبیح، وشعر نادر وآخر بارد، بان جھلھا، وظھر نقصھا. وھو أیضا إذا أراد أن یصنع قصیدًة أو ینشيء رسالة، وقد فاته  ھذا العلم مزج الصفوَ بالكدر، وخلط الغرر بالعرر (القذر)واستعمل الوحشى العَكر، فجعل نفسه  مْھَزأةً للجاھل، وعبرة للعاقل... وإذا أراد أیضا تصنیف كلام منشور،أو تإلف شعر منظوم، وتخَّطى ھذا العلمَ، ساء اختیاُره لھا، وقبحت آثاُره فیھا، فأخذ الردىء المرذوَل، وترك . ([ 21  الجید المقبول، فدَّل على قصور فھمه ، وتأُّخر معرفتٍه وعلمه البلاغة وشروط الفصاحة اعتاد البلاغیون أن یقدَّموا بین یَدَى بحثھم بمِقدمة یعُنون فیھا بالوقوف على تعریف علمھم وتحدید مباحثه  وبیان الغرض منه ، ولم یكن البلاغیون بدعا في ذلك، بل ھو شيء تقتضیه  بدائه  العقل، ومناھج البحث في كل العلوم؛ وجریا على ھذه السنة الحسنة فإننا نجمل لك القول إجمالًا في تعریف الفصاحة والبلاعة، والفرق بینھما، ومقاییس الفصاحة في الكلمة والكلام، وحدود كل علم من علوم البلاغة. وقد وردت كلمة الفصاحة في اللغة بمعاٍن متعددة، كلھا تنبئ عن الظھور والبیان، وجاء على ذلك قول العرب: أفَصَح اللبَّن، أي: انجلت عنھا رْغوتھُا فظھر. قال الشاعر:
وتحت الرِّغَوة اللبَّن الفصیحُ وتقول: سَرینا حتى أفصح الصبُح، أي: بدا ضوءه، ومنھا المثل المشھور: أفصح الصبُح لذي عینین، ویقال: فَصُح الأعجمي وأفصح؛ إذا خلصت لغته  من اللكُّنة واللحن، وانطلق لسانه  بالعربیة، ویجرى على ذلك قوله  تعالى(َوأخَي ھاُروُن ھَو أفَصَح منيِّ لسِانًا) [القصص: 34 ] أي: أبین مني قولًا، والفصیح في اللغة: المنطلق اللسان في القول، الذي یعرف جید الكلام من ردیئه ، فھو طلقْ اللسان یكشف عن معانیه ،.( ویعُبِّر عن مشاعره بلفظ فصیح( 1
أما البلاغة في اللغة فھي مصدر للفعل بلغ، وتنبئ في مجمل معانیھا عن الوصول والانتھاء، قال صاحب اللسان: بَلغَ الشيء یبلغ بلوغا وبلاغا:ً وصل وانتھي، وأبلغَه  ھو إبلاغا وتبلیغا،ً قال أبو قیس الَأسلتَ الُّسلمَي:
مھلًا فقد أبلغْتَ أسماعي ***    قالْت ولم تقصد لقیل الخنا
أي: قد انتھیت وأنعمتَ. ویقال: بلغُ - بضم اللام - بلاغة: إذا أتى بكلام بلیغ مؤثرّ یصل إلى أعماق.( النفس، فسمیت البلاغة بلاغة؛ لَأنھا تنھي المعنى إلى قلب السامع فیفھمه ( 2
ولعلك تلحظ أن الفصاحة والبلاغة یترادفان في المفھوم الاصطلاحي في الإبانة عن المعنى وإظھاره،وذلك على الرغم من اختلاف أصلھما اللغوي الذي ترجعان إلیه .
وقد درجت طائفة من البلاغیین على ذلك؛ حیث رأینا عبد القاھر الجرجانى یعقد فصلًا " في تحقیق القول على البلاغة والفصاحة والبیان والبراعة، وكل ما شاكل ذلك من ألفاظ " یذھب فیھا إلى أنھا " لا معنى لھذه العبارات وسائر ما یجرى مجراھا – مما یفُرد فیھ اللفظ بالنعت والصفة، وینُسب فیھا الفضل والمزَّیُة إليه دون المعنى – غیُر وصف الكلام بُحسن الدلالة وتمامھا فیما كانت له  دلالةً، ثم تَبُّرجھا في صورة ھي أبْھي وأزیُن وآنُق وأعجبُ وأحُّق بأن تستولي على ھوى النفس، وتنال الحَّظ الأوفر من میل القلوب … ولاجھة لاستعمال ھذه الخصال غیُر أن تأتي المعنى من الجھة التي ھي أصُّح لتأدیته ، وتختاَر له  اللفظ الذي ھو .( أخصُّ بھا، وأكشفُ عنھا وأتُّم لھا، وأحرى بأن یكسبھا نبُلًا ویظُھر فیھ مِزَّیًة " (22
فالفصاحة والبلاغة كما رأیت یترادفان في الدلالة على مفھوم واحد عند عبد القاھر الجرجانى، ومن ذھب مذھبھا كالزمخشرى والفخر الرازى.
وثمة طائفة أخرى أخذت تفُّرق بین الفصاحة والبلاغة في الاصطلاح؛ تبعا لاختلاف مدلولھما اللغوي، وقد نقل إلینا أبو ھلال العسكرى من ذلك قوَل بعض علمائنا: إن الفصاحة تمام آلة البیان " فعلى ھذا تكون الفصاحة والبلاغة مختلفتین، وذلك أن الفصاحة تمام آلة البیان، فھي مقصورة على اللفظ، لأن الآلة ([ تتعلق باللفظ دون المعنى، والبلاغة إنما ھي إنْھاء المعنى إلى القلب فكأنَّھا مقصورة على المعنى " ([ 23
ومما یقرب من ھذا المذھب ما ارتآه ابن سنان الخفاجي (ت 466 ھ) في الفرق بین الفصاحة والبلاغة من " أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني. لا یقال فيكلمة واحدة لا تدل على معنى یفضل عن مثلھا بلیغة، وإن قیل فیھا إنھا فصیحة. وكل كلام بلیغ فصیح، .([ ولیس كل فصیح بلیغا،ً كالذي یقع فیھا الإسھاب في غیر موضعه  " ([ 24
وإن كان ما ذكره ابن سنان صحیحا في مرجع البلاغة، فقد جاوز حَّد الصحة في موصوف الفصاحة لأنھا لیست مقصورة على وصف الألفاظ المفردة فقط، ولكنھا تكون وصفا للتركیب كذلك. وإذا أمعنتَ النظر في كلامه  السابق فسوف تلتمس الدلیل على ذلك المأخذ.
نخلص من ذلك إلى أن الفصاحة والبلاغة مختلفتان؛ لأن الفصاحة تقع وصفا للكلمة المفردة، وللكلام المؤلفَّ، وللمتكلمِّ، أما البلاغة فلا تكون إلا وصفا للكلام المؤلفَّ وللمتكلمِّ، ثم آل تعریف البلاغة عند المتأخرین إلى أنَّھا مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته ، ومن أجل ذلك اعتبروا الحدیث عن فصاحة الكلمة والكلام مقدمة أولیة للحدیث عن البلاغة.
وقد اشترط البلاغیون لفصاحة الكلمة والكلام شروطا بعضھا یرجع إلى ذوق المتلقیِّن في استعمال اللغة، ویرجع بعضھا الآخر إلى قواعد ثابتة في نحو اللغة وصرفھا.
فصاحة الكلمة:
وقد أرجعھا علماء البلاغة ([ 25 ]) إلى سلامة الكلمة المفردة من عیوب ثلاثة ھي:
( أ ) تنافر الحروف:
وھو وصف في الكلمة یوُجب ثقلھا على اللسان، وصعوبة النطق بھا، ویرجع ذلك إلى تقاُرب حروف الكلمة في المخرج؛ لأنھ بمِنزلة مشي المقیَّد، وربما یعود التنافر الذي یسُلم إلى صعوبة نطق الكلمة إلى تباعد حروف الكلمة في المخرج، فیكون الانتقال من حرف إلى أخر بمثابة الطفرة. كما روي أن ( أعرابیا سئل عن ناقته، فقال: " تركتھا ترعى الھعُخَع" .
وأیاًّ ما كان معنى الكلمة فھي متناھیة في التنافر والثقل؛ لتقارب حروفھا في المخرج: فالھاء والعین والخاء كلھا حروف حلقیة، أي: خارجة من مخرج واحد وھو الحلق، مما یؤدى إلى صعوبة النطق بھا.
ویجرى على ذلك إلا أنھا أخف منھ في الثقل لفظة ( مستشزرات ) في قول امرئ القیس:
وفرٍع یزین المتن أسوَد فاحم ***  أثیثٍ كقنِو النخلیة المتُعْثِكل 
تضل الَمَداري في مثُنى ومرُسِل( 2) غدائُره مسُتشْزَراتٌ إلى الُعلا فأنت تجد في كلمة (مستشزرات) تنافرا یحسھا السمع، ویثقل على اللسان النطق بھا، ومبعث ذلك من توسط الشین المھموسة الرخوة بین التاء المھموسة الشدیدة، والزاي المجھورة، وھي حروف لسانیة متقاربةالمخرج.
وقد یكون طول الكلمة سببا في ثقل النطق بھا، ومما استدلوا بھا على ذلك لفظ (سویداوتھا) في قولالمتنبي:
إن الكریَم بلا كرامٍ منھمُ *** مثلُ القلوب بلا سُویَداواتھِا      
حیث خرجت الكلمة عن حِّد الاعتدال المعھود في الاستعمال؛ لأن الذوق العربى یمیل إلى استعمال اللفظ قلیل الحروف، ویستثقل اللفظ الطویل وینفر منھا، وبذلك خرجت لفظة (سویداوتھا) عن حِّد الفصاحة لطولھا وكثرة حروفھا.
ونحن لا ننكر أن یكون لمخارج الحروف وھیئة تألیفھا أثٌر في مذاقة الكلمة من حیث خفتھا وثقلھا على اللسان، غیر أن ذلك لا یجرى على معیار معروف وقاعدة مَّطردة؛ فقد تكون الكلمة فصیحة مع قرب مخارج حروفھا، وقد تكون غیر فصیحة عِسرًة على اللسان مع بعُد مخارج حروفھا.
إن الحكم بُحْسن ما یحسن من الألفاظ وقبُح ما یقبح برجع في ھذا المقام إلى حاَّسة السمع، وعللَّ ابن الأثیر (ت 637 ھ) لذلك بأنه  " قد یجىء في المتقارب المخارج ما ھو حسن رائق. ألا ترى أن الجیم والشین والیاء مخارج متقاربة، وھي من وسط اللسان بینھا وبین الحنك، وتسَّمى ثلاثتھُا (الشجریة) وإذا ترَّكب منھا شيٌء من الألفاظ جاء حسنا؛ً فإن قیل: (َجْیش) كانت لفظة محمودة، أو قِّدمت الشیُن على الجیم؛فقیل (َشجي) كانت أیضا لفظة محمودة، ومما ھو أقرب مخرجا من ذلك: الباء والمیم والفاء، وثلاثتھا من الَّشَفة، وتسَّمى (الشفھیة) فإذا نظُم منھا شيٌء من الألفاظ كان جمیلًا حسنا،ً كقولنا ( فم ) فھذه اللفظة من حرفین ھما: الفاء والمیم، وكقولنا ( ذقتھُا بفمي ) وھذه اللفظة مؤلفَّة من الثلاثة بجملتھا، وكلاھما حَسٌن لاعیب فیه . وقد ورد من المتباعد المخارج شٌئ قبیح أیضا،ً ولو كان التباعد سببا للحسن لما كان سببا للقبح؛ إذ ھما ضدان لا یجتمعان، فمن ذلك أنه  یقال ( ملعَ) إذا عدا؛ فالمیم من الشفة، والعین من حروف الحلق، واللام من وسط اللسان، وكُّل ذلك متباعد، ومع ھذا فإن ھذه اللفظة مكروھة الاستعمال ینبو عنھا الذوق السلیم، ولا یستعملھا مْن عنده معرفٌة بفن الفصاحة، وھا ھنا نكتة غربیة، وھو أناَّ إذا عكسنا حروف ھذه([ اللفظة صارت (َعلمِ) وعند ذلك تكون حسنة لا مزید على حسنھا !
ولذلك نرى أن المعَّول علیھا ھا ھنا ھو الذوق العربي السلیم المكتسب بالنظر في كلام العرب وتذوق أسالیبھم، فما یعده الذوق السلیم ثقیلًا عسر النطق فھو المتنافر، وما كان خفیفا على اللسان لا ینفر منه السمع، ولا ینبو عنه  الطبع فھو الفصیح، سواء أكان ذلك من قرب مخارج الحروف، أم من بعدھا، أم من غیر ذلك.
وقد یكون الثقل في نطق بعض الكلمات من أھم خصائص فصاحتھا عن المعني المراد في سیاقھا، وانتھت بعض الدارسات الحدیثة ([ 28 ]) في ذلك إلى أن كثیرا من الكلمات التي ربما تبدو متنافرة الأصوات قد تكون ضروریة في السیاق، وأنھا بجرسھا وأصواتھا التي تألفت منھا تعطي من الدلالات والإیحاءات ما لا یغُنى فیھا غیرھا.
وآیة ذلك ما ورد في القرآن الكریم من قولھ تعالى ( یاأیَّھا الذَّیَن آمَنوُا ما لكَم إذِا قیِل لكَم انفرِوا فيِ سَبیِل لَّله اثَّاقَلتْمُ إلِىَ الَأرضِ أرَضِیتمُ باِلحْیاةِ الدُّنیَا مْن الْآِخَرِة فَما مَتاُع الحْیاةِ الدُّنیَا فيِ الْآِخَرِة إلِّا قَلیِلٌ)[التوبة: 38 ] فربما أحسَّ القارئ بأن في كلمة (اثاقلتم) ثقلًا عند النطق بھا، لكنھا الثقل الفصیح الذي يتجاوب مع السياق و الغرض المراد فالله سبحانه  یصف تقاعسھم وتثاقلھم وخلودھم إلى الأرض ونفورھم ، من الجھاد الذي دعوا إليه  في عام العسرة، ومن ھنا جاء التھدید الشدید المواجه  لتخاذل أرواحھم في قول لله تعالى (إلِا تَنفرِوا یعُذْبُكْم عَذابًا إليما وَیْسَتبْدِل قَوْما غْیَرُكْم وَلا تَضُّروه شْیئًا وَلَّله علىَ كلِّ شْيٍء قَدِیٌر).[ [الآیة: 39
وفي قوله  تعالى (قال یا قوم أرأیتم إن كنت على بینة من ربى وأتاني رحمة من عنده فعمیت علیكم أنلزمكموھا وأنتم لھا كارھون) [ھود: 28 ]. نجد في كلمة (أنلزمكموھا) صعوبًة وثقلًا في النطق، ولكنه الثقل الفصیح الذي یتناغم مع سیاق الكلام، ویحاكى صعوبة التزامھم بالآیات، وھم كارھون لھا.
ولعلنا ندرك كذلك التجاوبَ بین بنیة الكلمة وثقلھا، وما ترسمه  من ظلال دلإلة في سیاقھا، بحیث لورحنا نستبدلھا بغیرھا لھوى الكلام بذلك عن مرتبة الفصاحة والبلاغة.
اقرأ معي قوله  تعالى (والذین كفروا لھم نار جھنم لا یقضي علیھم فیموتوا ولا یخفف عنھم من عذابھا كذلك نجزى كل كفور وھم یصطرخون فیھا ربنا أخرجنا نعمل صالحا غیر الذي كنا نعمل) [فاطر:.[36،37
استمع إلى كلمة (یصطرخون) في الآیة " فیخیلِّ إليك جرُسھا الغلیظ غلَظ الصراخ المختلط المتجاوب من كل مكان، المنبعث من حناجر مكتظة بالأصوات الخشنة، كما تلقي إليك ظل الإھمال لھذا الاصطراخ الذي لا یجد من یھتم به  أو یلبیه ، وتلمح من وراء ذلك كله  صورة ذلك العذاب الغلیظ الذي ھم فیه([ یصطرخون " ([ 29
ونحن إذا احتكمنا إلى ذلك المقیاس في كلمة (مستشزرات) الواردة في معلقة أمرئ القیس، نجد أنھا قد عبرت عن المعنى الذي یریده الشاعر ([ 30 ])، فھو یصف شعرھا بكثرته وتداخله وتشابكه ، ولذلك عمد إلى كلمة فیھا ھذا التداخل والتشابك، وھي مستشزرات التي تداخلت أصوات حروفھا وكاد صوت التاء والشین یختفي بین صوتي الزاي والسین، فھي لذلك أكثر ملاءمة للمقام الذي وردت فیه  من بدیلتھا (مرتفعات ) أو (مستشرفات) المقترحة؛ لأن صورتھا توحي بصورة الَّشْعر الذي یصفه  الشاعر، وبخاصة بعد قوله  ( أثیث كقنو النخلة المتعثكل ) والسیاق یستدعي لذلك كلمة ( مستشزرات ) ویلح علیھا؛ لتحاكي بصورتھا وأصواتھا المعنى المراد في وصفه .
(ب) الغرابة:
أما الشرط الثانى من الشروط المخلةَّ بفصاحة الكلمة فھو الغرابة، وھم یعنون بھِا أن تكون الكلمة وحشیة غیر ظاھرة المعنى. ولا مأنوسة الاستعمال عند العرب الُخلصَّ، ویفُھم من ھذا أن العرب المحدثین،وغیرھم من المولدَّین الذین ظھروا بعد تفشِّي اللحن وشیوع الخطأ في اللغة، وضعف الملكات اللغویة لا یعَّول علیھم في الحكم على الكلمة بالغرابة.
وقد أرجع العلماء غرابة الكلمة إلى سببین، أولھما: أن تكون الكلمة بحیث یحُتاج في معرفة معناھا إلى بحث وتنقیر في كتب اللغة، واستدلوا على ذلك بما روي عن عیسى بن عمر النحوي، حینما سقط عن حماره، فاجتمع علیه  الناس، فقال لھَم: "ما لكم تكأكأتم علَّى تكأُكَؤُكم على ذى جَّنة ؟! افرنقعوا عنى".([31])
وربما عمد ھذا النحوي عمدا إلى ھذا الإغراب؛ لكي یَشَغلھَم بھا على سبیل المزاح والمداعبة؛ حتى ینھض من عثرته ، ویفلت من بین أیدیھم، ولذلك قال بعضھم: دَعوه فإن شیطانه  یتكلم بالھِندیة، وھذا دلیل على ما في الكلمتین من غرابة، تحتاج للكشف عن المراد منھا إلى مراجعة كتب اللغة المعنیة بھِذا الأمر. ومن ذلك كلمة (ابتشاك) في قول المتنبي:
وما أرضى لمقلته  بُحلم  ***   إذا انتبھت توھمه  ابتشاكا
فالكلمة تعني: الكذب، وھي على ھیئتھا التي أوردھا الشاعر غریبة، حتى أحوجت النقاد إلى التفتیش عن معناھا؛ فعدوھا من الغریب الذي یخل بفصاحة الكلمة.
أما السبب الآخر للغرابة فھو ألَّا تكون الكلمة ظاھرة الدلالة على المعنى المراد في سیاقھا، بحیث تترَّدد بین معنیین أو أكثر بلا قرینة، فتحیر القارئ أو السامع؛ حتى یلتمس في تخریجھا وجھا بعیدا،ً كما في قول العَّجاج في محبوبته :
أیام أبدْت واضحا مفُلجَّا *** أغَّر بَّراقا وطرفا أبرجا    
ومقلًة وحاجبا مزُجَـــــــجا  ***وفاحما وِمْرَسنا مسُرَجا    
فقد اختلف في تخریج كلمة (ُمَسَّرجا)ً فقیل: إنَّھا منسوبة إلى السیف الُّسریجي، نسبة إلى قین یسمى سُریجا اشتھُر بصناعة السیوف، ویكون المراد: تشبیه  الأنف بالسیف السریجي في الدقة والاستواء، وقیل إن الكلمة منسوبة إلى السراج على تشبیه  الأنف بھا في البریق واللمعان، فھو مأخوذ من قولھم:سَّرج للهوجھه ، أي:بَّھجه  وحَّسنه .
والكلمة على كلا التقدیرین - في نظر كثر من البلاغیین والنقاد - غیر ظاھرة الدلالة على المعنى المراد؛ لأن مادة فَّعل بتشدید العین. إنَّما تدل على نسبة شيء إلى أخر. كما یقال: شَّرف فلان فلانا،ً أي: نسبه  إلى الشرف، وكَّفره، أي: نسبه  إلى الكفر، فھو مشَّرف وُمكَّفر، أي: منسوب إلى الشرف والكفر، وھذه النسبة لا تدل على تشبیه  المنسوب بالمنسوب إلیھا كما أراد الشاعر؛ إذ لم یرد استعمال اللفظ فیھا؛ فدلالتھا على التشبیه  بعیدة.
وإذا كان حمل الكلمة على ھذا التقدیر قد سقط من اعتبارنا، فما الداعي إلى عِّدھا من الغریب ؟!
ونحن نعتقد أن عزل الكلمة عن سیاقھا ھو الذي أوھم بھِذا الغموض والغرابة، بل أدى إلى التسُّمح في إصدار أحكام طالما تحتاج في النظر المنصف إلى مناقشتھا قبل الإذعان لھا أو التسلیم بھِا؛ لأن الكلمات لا تكتسب دلالة محَّددة وھي مفردة، وقبل أن توضع في السیاق، بل یجب النظر إلیھا على أنَّھا لبنة في بناء محكم الأواصر تؤثر فیھا وتتأثر بھا.
وقد أفصح عبد القاھر الجرجاني (ت 471 ھ) عن ذلك النظر، في أثناء عرض نظریته  في النظم، فقال: " وھل تجد أحدا یقول: ھذه الكلمة فصیحة إلا وھو یعتبر مكانَھا من النظم، وحسن ملاءمة معناھا لمعانى جاراتھِا، وفضل مؤانستھا لأخواتھِا؟ وھل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافه : قلقة ونابیة ومستكرھة، إلا وغرضھم أن یعبروا بالتمُّكن عن حسن الاتفاق بین ھذه وتلك من جھة معناھا، وبالقلق والنبِّو عن سوء التلاؤم، وأن الأولى لم تَلقِ بالثانیة في معناھا، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقا للتالیة في.([ مؤداھا " ([ 33
وعلى ھذا الأساس نجد أن كلمة (ُمَسَّرجا)ً في قول رؤبة السابق تتصف بالغرابة إذا أخذت وحدھا من البیت الذي وردت فیه . وفي ھذا تجاھل لدلالة السیاق، وھو من أبرز القرائن الدالة على مراد المتكلم، كما أنھا تعُین المتلقي على تعیین المعنى عند الإشكال. فلو نظرنا إلى الكلمة في سیاقھا فسوف نجد أنھا فصیحة بعیدة عن الغرابة؛ لأنھا لا تحتمل إلا تخریجا واحدا ھو أن الشاعر یصف أنف محبوبته  بالدقة والاستواء كالسیف الُّسَریجي المشھور بھاتین الصفتین، وھذا المعنى ھو الذي یلائم السیاق، وبخاصة إذا علمنا أن الشاعر یتفجع على محبوبته  الموصوفة بتلك الصفات. أما تشبیه  الأنف بالسراج فلا معنى له . فضلًا عن أنه لا یتفق مع غرض الشاعر وسیاق القصید. وھذا یقودنا إلى أن نعَّد الغرابة مقیاسا نسبیاًّ غیر مَّطرد، ویجب تقییده بالإطار الزماني والمكاني الذي تستعمل فیھ الكلمة؛ فاللغة – أیة لغة – تتطور من عصر إلى عصر، كما یتطور المتحدثون بھا جیلًا بعد جیل، فكثیر من الكلمات التي قد تبدو غریبًة بالنسبة لنا في ھذا العصر، لم تكن بمثل ھذه الغرابة حینما یستعملھا الناس، وتوُضَع في إطارھا التاریخي آنذاك.
وقد تنبَّه  إلى ذلك كوكبة من علمائنا المتقدمین والمتأخرین( 1). حین قیدَّوا الحكم على غرابة الكلمة بُعْرف الأعراب الُخلصَّ لا بالنسبة للمولدَّین؛ إذ لو نظرنا إلى الغرابة بالنسبة إلى استعمال الناس الذین لا یتمتعون بالحسِّ اللغوي ، لخرج كثیر من قصائد العرب وكلامھا عن حِّد الفصاحة؛ فإنھا الآن لغلبة الجھل باللغة یَّعد غریبا لا تعُرف مفرداتھا فضلًا عن تراكیبھا. ولیست الغرابة إلا وصفا طارئا فیھا، یزول بالاطلاع على معناه ویجرى على ذلك غریبُ القرآن الكریم وغریب الحدیث الشریف.
وفي كتاب (صبح الأعشى) للقلقشندي إجمالُ دقیق لنوعیة الألفاظ الغریبة ومرتبتھا في الحسن
والقبح، فھو یقسمھا إلى:
1- غریب متوحش: وھو قبیح، لا یختلف في قبحھا كل الناس في أي زمن من الأزمنة؛ لقلة استعمالھا عند العرب الُخلصَّ وغیرھم، ومن أمثلتھا لفظة (جحیش) في قول تأبَّط شًّرا:
جَحیشِا ویعَرْوِري ظھور المھالك( 1) ظَلُّ بموماة ویمُسِي بغیرھا
فھي من الألفاظ المنكرة القبیحة، ولو وضعت كلمة (فرید) التي تؤدى معناھا موضعھا ما اختلّ شئ من وزنھا.
2-غریب متوحش في زمن دون زمن، وھو ما كان متداول الاستعمال في زمن العرب ثم ترك بعد ذلك، وھو بھذا لا یعاب استعمالھا على غیرھم ممن قلتَّ معرفتھم بھا.
3- غریب متوحش عند قوم دون قوم ككلام أھل البادیة من العرب بالنسبة إلى أھل الحضر منھم
.([34])
وقد تَھدي الدكتور أحمد بدوي([ 35 ])بذلك؛ فربط استخدام الغریب من الألفاظ بنوعیة الصورة الأدبیة التي یریدھا المتكلم والأنواع المعروفة لھا في عالم الأدب، فالنوع الذي یراد بھ التأثیر السریع ونقل الشعورإلى القارئ في سھولة ویسر، كالخطب والروایات التمثیلیة، مثل ھذه الأنواع یسُتثقل فیھا استعمال الغریب، أما الشعر فھو یقرأ في ھدوء ویستمتع بقراءته  في ریث وأناة، فلا بأس من استعمال الغریب فیه ، إذا لم یكن وحشیا ممعنا في الغرابة.
(ج) مخالفة القیاس اللغوى:
والشرط الثالث لفصاحة الكلمة ھو ألا تكون مخالفة للقیاس اللغوي وذلك بجریانھِا على حسب القانون النحوى والصرفي الذي یحكم حركة التعبیر بھِا تبعا لاستعمال العرب الفصحاء الذین یعتد بكلامھم.
وقد رصد البلاغیون عددا من ظواھر مخالفة القیاس اللغوي التي تخل بفصاحة الكلمة ([ 36 ]) نذكرمنھا:
-1 أن تكون الكلمة غیر عربیة، مثل لفظة (المقراض) في قول أبي الشیص:
               وجناحِ مقصوصٍ تحیفَّ ریشَه  *** ریبُ الزمان تحیفُّ المقراض   
فالمقراض لفظ غیر فصیح؛ لأنه  لیس في كلام العرب.
-2 أن تكون الكلمة عربیة إلا أنَّھا قد عبِّر بھِا عن غیِر ما وضعت له  في عرف اللغة كما في قول البحتري:
یشُّق علیه  الریح كل عشیةًّ *** جیوب الغمام بین بكِر وأیمِّ     
فوضع ( الأیم ) مكان ( الثیبِّ ) ولیس الأمر كذلك، لیس الأیم الثیب في كلام العرب. إنما الأیم التي لا زوج لھا بكرا كانت أو ثیبا.ً
وكذلك قوله :
شرطّى الإنصاف إن قیل اشترط ***وصدیقى من إذا صَافيَ قسط    
وأراد ( بقسط ) عدل؛ لأن الأمر علیه ، ولكن الفعل لا یستعمل في ھذا المعنى بل یقال: أقسط: إذا عدل، وقسط: إذا جار، قال لله تعالى: (َوأمَّا القْاِسطُوَن فَكانوُا لجِھَّنَم حَطًبا). [الجن: 15
-3 أن یحدث في الكلمة حذف یخل بمعناھا كما في قول رؤبة بن العجاج:
قواطنا مكة من وْرق الِحما
یرید: الَحمام، وقول النجاشى:
فلستُ بآتیه  ولا أستطیعه *** ولاِك اسقنى إن كان ماؤك ذا فضل      
یرید: ولكن اسقنى.
-4 وقد یقع ذلك على وجه  الزیادة في الكلمة، مثل أن یشبع الحركة فیھا، فتصیر حرفا،ً كقول الفرزدق:
تَنْفي یداھا الحصا في كل ھاجرة ***نفَي الدراھیم تنَْقاَد الصیاریف         
یرید: الدراھم والصیارف.
-5 وقد یكون ذلك بإیراد الكلمة على الوجه  الشاذ القلیل، وھو أردأ اللغات فیھا لشذوذه، ومن ھذا قول البحتري:
متحیرین فباھت متعِّجبٌ ***مما یرى أو ناظٌر متأِّملُ  
فقوله  (باھت) لغة ردئیة شاذة، والعربى المستعمل بھُت الرجل یبُھت فھو مبھوت.
-6 وقد یقع ذلك بجمع الكلمة على خلاف الصیغة التي تجمع علیھا، كما قال الطِّرماح:
وأكره أن یعیب علِّى قومى ***ھجاي الأرذلین ذوى الحِناّت       
فجمع (إحنة) على غیر الجمع الصحیح، لَّأنھا تجمع على إَحن لا حنات.
-7 وقد یكون ذلك بإبدال حرف من حروف الكلمة بغیره، كما قال الشاعر:
لھَا أساریر من لحم متَمَّرةٍ ***من الثعإلى ووخٌز من أرانیھا        
یرید: من الثعالب، وأرانبھا.
-8 وقد یكون بفك الإدغام في الكلمة : كقول قعنب بن أم صاحب:
مھلًا أعاذل قد جرْبتِ من خلقى*** أنى أجود لأقوام وإْن ضننوا      
والصواب، ضُّنوا، لأن قیاس التصریف في الأصل ھو الإدغام.
ولعلك تلحظ أن العیب المخل بالفصاحة ھنا لیس مقصورا على مخالفة القیاس الصرفي فقط، بل تعددت صوره ومواضعه ؛ لیدخل فیھا كل ما ینكره أھل اللغة لمأخذ لغوى أو صرفي، أو تصُّرف في الكلمة بزیادة أو نقص غیر معھودین في الوضع أو الاستعمال؛ لأن مخالفة القیاس الصرفي لا تخل دائماً بالفصاحة؛ فقد تكون الكلمة مخالفة للقیاس الصرفي، وھي مع ذلك فصیحة؛ لموافقتھا للوضع اللغوي، فكلمة (استحوذ) مثلًا یقتضي القیاس الصرفي إعلالھا بقلب الواو ألفا،ً فیقال (استحاذ) كاستقام واستجاب، ولكنھاوردت في القرآن الكریم بتصحیح الواو، قال تعالى (اْسَتْحَوَذ علیَھْم الَّشْیَطاُن فَأنَساُھْم ذِكَر لَّله )[المجادلة: 19 ] وھي مع ذلك فصیحة لموافقتھا ما نقل عن واضع اللغة.
ومن ھذا القبیل كلمات: آل، وماء، وأبَى یأبَى، بفتح عینھا في المضارع، وَعِوَر یَعوُر. فآل وماء أصلھما أھل وموه، أبدلت الھاء ھمزة، وإبدال الھمزة من الھَاء مخالف للقیاس، وكذلك یأبَى فإن القیاس فیھاكسر عینھا (الباء) لأن فَعل بفتح العین في الماضي لا تفتح عینھا في المضارع إلا إذا كانت عینھا أو لامھا حرف حلق كسأل وقرأ ومنع. أما عوَر یَعَوُر فقد بقیت الواو على حالھا ولم تقلب ألفا؛ً لأن الوصف منھا على أفعل فعلاء، فیقال: أعور وعوراء؛ ولذلك استعمل الفعل ھكذا عِوَر یْعَوُر؛ لأن الفعل لم یستوفِ شرط الإعلال، فھذه الأمثلة وماشاكلھا فصیحة، وإن خالفت القیاس الصرفي، لموافقتھا للوضع اللغوي، وثبوت استعمالھا على تلك الصورة لدى العرب الفصحاء.
فصاحة الكلام وترجع فصاحة الكلام - حسبما اشترط البلاغیون - إلى خلوصھا من تنافر الكلمات مجتمعة، وخلوصھا من ضعف التألیف، ومن التعقید، مع فصاحة كلماتھا؛ لأن فصاحة الكلمة شرط في فصاحة الكلام، ولو اشتملالكلام على كلمة غیر فصیحة لم یكن فصیحا.ً
1- تنافر الكلمات:
وھو وصف في الكلمات مجتمعة یوجب ثقلھا على اللسان وعن النطق بھِا، وینشأ ذلك من تكرار حرف أو حرفین في الكلام المؤلفَّ، مما یؤدى إلى تنافر الكلمات وثقلھا عند النطق بھِا، وقد یكون ھذا التنافر شدیدا كذلك البیت الذي أنشده الجاحظ وتناقله  البلاغیون شاھدا على ھذا النوع:
ولیس قرُبَ قبِر حربٍ قبُر( 1) وقبُر حربٍ بمكاٍن قفُر
فالتنافر فیھا یرجع إلى تكرار القاف والباء والراء، وتقاربھا؛ مما أكسب الكلام ثقلًا شدیدا،ً حتى لایتھیأ لأحد أن ینشده ثلاث مرات دون أن یتتعتع في نطقه .
وقول المتنبي:
فقلَقلَتُ بالھمَ الذي قلَقلَ الحشَا *** قلاقلَ ھم كلھُّن قلاقلُ         
وقول الحریري:
وشَّوه ترقیشَ المَرقشَّ رْقشُه *** فأشیاعه  یشُكونه  ومعاشُرْه    
فتكرار القافات واللامات في البیت الأول، والشینات في البیت الثانى قد أورث الكلام ثقلًا على اللسان، وكراھة في السمع.
وقد یكون التنافر خفیفا.ً كقول أبى تمام یمدح موسى بن ھارون الرافقى ویدفع عن نفسه  تھُمة ھجائه :
كریم متى أمدحه  أمدحه  والورى*** معي وإذا ما لمُتھه  لُمتھه وحدى      
فإن في تكرار كلمة (أمدحه ) ثقلًا خفیفا،ً لما بین الحاء والھاء من التنافر، وھما من حروف الحلق، فإذا تكررت الكلمة تضاعف ذلك الثقل، ووقع التنافر المخل بالفصاحة، ولا تظَّنن أن الجمع بین الحاء والھاء في (أمدحه ) ھو الذي أخَّل بفصاحة الكلام، فقد وقع مثله  في القرآن الكریم، واقرأ إن شئت قوله  تعالى(َوِمْن اللیَّل فَسبحِّه  وَإدِباَر النُّجوِم ) [الطور: 49 ] فكلمة (فسبحه ) قد اشتملت على الحاء والھاء، وھي مع ذلك في غایة الفصاحة.
 كما ورد التكرار في  قول  النبي صلى الله عليه وسلم الكریم بن الكریم بن الكریم بن الكریم یوسف بن یعقوب بن إسحاق بن إبراھیم" ویشھد الذوق السلیم بفصاحة ھذا القول النبوي، ولذلك كان ھذا الذوق ھو الفیصل في الحكم على مدى حسن ھذا المقیاس أو قبحه ، كما كان مرجعنا في الحكم على تنافر الحروف في فصاحة الكلمة المفردة.
وقد ینشأ تنافر الكلمات من تواردھا على صیغ متماثلة من الأفعال متعاطفة أو غیر متعاطفة، كقولالمتنبى:
مِر أنْه  اْسِرفه  تســـُلْ ***عِشِ ابْق اْسم سُد جْد قدُ         
اسُبِ رْع زْع دِل اثْن  نلَ ***غَظ اُرِم صیب اْحِم اْغُز  
وقول عبد السلام بن رغبان المعروف بدیك الجن:
وِرشْ وأُمْر وانْتدَب للمعإلى *** اْحلُ وامْرْر وضُّر وانْفعَ ولنِ واْخشُن 
ولعلك تحس أن تكرار مثل ھذه الصیغ المتماثلة قد جعل الكلمات تتنافر فیما بینھا وتتعادى فلا یألف بعضھا الآخر، بمِا یؤدي إلى ثقلھا على اللسان والأذن معا،ً وإن كان البیت الثاني أخف ثقلًا من الأول؛ وما ذاك إلا من أجل توسط حرف العطف الواو بین صیغ الأمر المتتابعة التي أخلتَّ بفصاحة الكلمة مجتمعة، على الرغم من أن كل كلمة على حدة فصیحة مقبولة.
ومن تكرار الصیغ المتماثلة قول المتنبي في مدح عبد لله بن خلكَّان:
جَعٍد سَريِّ نه   ندَبٍ رضًى ندْسِ*** ندَ أبٍّى غٍر وافٍ أخي ثقة          
فالمتنبى قد أورد صفات متعددة على نمط واحد، مما أورث نظمھ تنافرا بین كلماتھ، حتى أصبح ثقیلًا على اللسان والأسماع، نابیا عن الذوق، فباعد كل ذلك بینھا وبین الفصاحة.
وقد ینشأ التنافر بین الكلمات من توالى أحرف المعاني، وتعاقبُ بعضھا إثر بعض كقول أبى تمام:
كأنه  في اجتماع الُّروح فیه  له*** في كل جارحة من جسمه روحُ          
وقول المتنبي في صفة فرسه  السریعة:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة*** سَبوحٌ لھا منھا علیھا شواھُد        
فالجار والمجرور قد توالیا في البیت الأول ثلاث مرات (فیه ، له ، في كل) وكذلك في البیت الآخر(لھا، منھا، علیھا) مما أورث النظم شیئا من الثقل.
وربما یكون النظم متنافرا بسبب تتابعُ الإضافات في الكلام، كقول ابن بابك:
حمامة جْرَعا حْوَمة الَجْنَدِل اْسَجعي*** فأنت بمرأي من سُعادَ وَمْسَمِع         
فقد أضاف الشاعر كل كلمة من الشطر الأول إلى ما یلیھا؛ ولذلك كان نظمھا متنافرا ثقیلًا على اللسانوالأذن معا.ً
والواقع أن تتابع الصفات والإضافات لیس شرطا مَّطردا في تنافر الكلمات والإخلال بالنظم؛ فقد ورد تتابع الصفات في قوله  تعالى: ( عَسى رُّبُه  إنِ طلقَّكَّن أنَ یبُدِله  أزَواًجا خْیًرا مْنُكَّن مْسلمِاتٍ مْؤِمَناتٍ قَانتِاتٍ.[ تَائبِاتٍ عابدِاتٍ سائحِاتٍ ثَیبِّاتٍ وَأبَكاًرا) [التحریم: 5
كما ورد تتابع الإضافات في قولھ تعالى: ( مْثَل دَأبْ قَوْم نوُح وَعادٍ وَثُموَد وَالذَّیَن مْن بَعِدِھْم وَما لَّله یرُیُد ظُلمْا للِعْبادِ ) [غافر: 31 ]. وھو في كلتا الحالتین سھل الوقع، فصیح، لا تنافر فیھ ولا تكلف، ومرد ذلك في نظري إلى أن كل كلمة من كلمات النظم القرآني قد اقتضاھا سیاقھا فوقعت بذلك موقعھا الملائم لھا،بحیث لو رْمتَ أن نستبدل الكلمة بغیرھا لھوى الكلام عن مرتبة الفصاحة والبلاغة؛ لذلك كان المعَّول علیھافي ذلك ھو الذوق الصحیح، تماما كما عولنا علیھا من قبل في تنافر حروف الكلمة المفردة.
2- ضعف التألیف:
وھو أن یكون تألیف الكلام جاریا على خلاف المشھور من قواعد النحو العربي عند جمھور النحاة.
فإذا ورد الكلام مخالفا لقاعدة نحویة مشھورة لدى الجمھور فھو خارج عن الفصاحة، وإن كان صحیحا عند بعض النحویین، أما مخالفة الكلام للمجمع علیه  من القواعد فخطأ لا ضعف تألیف. وھذا الخطأ في التألیف یبُعد الكلام عن الفصاحة من بابٍ أولى.
أ- فمن صور ضعف التألیف: عوُد الضمیر على متأخر لفظا ورتبة، كقول سیدنا حسان بن ثابت:
من الناس أبقى مجُده الدھَر مطِعما فلو أن مجدا أْخلد الدھَر واحداً فالضمیر في " مجده " یعود على " مطعم " وھو مفعول، فمرتبتھا  التأخیر عن فاعلھا، وبذلك عاد الضمیر على متأخر لفظا ورتبة، وھذا خروج بالكلام عن سنن المشھور من القواعد التي ارتضاھا جمھورالنحاة ومنھا قول الآخر:
جزى ربه  عني عدىَّ بَن حاتم ***جزاَء الكلابِ العاویات وقد فعَل       
فالضمیر في " ربه  " یعود على " عدى " وھو مفعول، وذلك ممتنع عند الجمھور فلا یصح أن یتصل بالفاعل ضمیر یعود على المفعول بھ  نحو " ضرب غلاُمھ زیدا " حتى لا یعود الضمیر على متأخر لفظاً ورتبة. أما عود الضمیر على متأخر لفظا دون رتبة فھو جائز نحو قولك: "ضرب غلَامُه  زیٌد "، لأن " زید
" فاعل فرتبه التقدیم ". وإن تأخر لفظا.ً
ب- ومن ضعف التألیف: وضع الضمیر المتصل موضع المنفصل بعد إلا في قول الشاعر:
وما علینا إذا ما كنتِ جارتنَا ***ألَّا یجاورنا إلاِك دیاَّر         
وقول الآخر:
لیس إلاك یا علّى ھمامٌ سیفھُُ دون عْرضِھ مسَلولُ
فقد وقع الضمیر المتصل بعد إلّا في قولھ: " إلاك " وھذا مخالف لما ارتضاه الجمھور.
ج- ومن صور ضعف التألیف:نصب المضارع بدون ناصب، كما في قول الشاعر:
              قبیٌح من الإنسان ینسى عیوبه*** ویذكَر عیبا في أخيه  قد اختفي    
وكقول طرفة بن العبد:
وأن أشھد اللذاتِ ھل أنت مْخلدِِى ألا أیھُّذا الزاجري أحضَر الوغى
فقد نصب الفعل " ینسى " والفعل " یذكر " في البیت الأول بدون ناصب، كما نصب طرفھ الفعل "
أحضر " بدون أداة نصب أیضا.ً ولیس ھذا من المواضع التي تعمل فیھا "أن" مضمرة جوازا أو وجوبا.ً
وعلى ذلك فإن حذف أداة النصب مع بقاء عملھا في ھذین البیتین مخالف لرأي جمھور النحاة، فھو ضعف تإلیف یخل بفصاحة الكلام.
3- التعقید: وھو أن یكون الكلام غیر واضح الدلالة على المعنى المراد بھ وھو نوعان:
أ- التعقید اللفظي: وھو أن یكون الكلام غیر ظاھر الدلالة على المعنى المراد بھا لخلل في نظمھا وتركیبھا، لعدم ترتیب الألفاظ على وفق ترتیب المعاني، بسبب تقدیم أو تأخیر أو فصل بأجنبي بین موصوف وصفتھ، أو بدل ومبدل منھا، أو مبتدأ وخبر ونحو ذلك مما یعُقدِّ اللفظ، ویجھد السامع في فھم المراد من الكلام، ومثالھ قول الفرزدق یمدح إبراھیم بن ھشام المخزومي خال ھشام بن عبد الملك بن مروان:
وما مثلھُ في الناس إلا مَملكَّاً ***أبو أمُّ حٌّى أبوه یقُاَربھ
یرید أن یقول: وما مثلھ في الناس حي یقاربھ إلا مملكا أبو أمھ أبوه، فالمعنى الذي أراد الفرزدق أن یثبتھ للممدوح بسیط جدا،ً وھو أن ھذا الممدوح لا یشبھھ أحد على الإطلاق في فضائلھ إلا ابُن أختھ ھشام بن عبد الملك، وھو بذلك یمدح الاثنین معا،ً ولكن الفرزدق تعَّسف في القول حین أسرف في ارتكاب ھذه الضرورات التي أدت بالتالى إلى خفاء المعنى المراد، وذلك لعدم ترتیب الألفاظ في الذكر على موجب ترتیب المعاني في النفس، ومع أن كلًا من ھذه المخالفات في النظم جائز باتفاق النحویین إلا أن اجتماعھا على ھذا النحو قد أورث الكلام تعقیدا بحیث لا یفھم مغزاه من لا یعلم قصتھ، فقد فصل الشاعر بین المبتدأ (أبو أمه ) والخبر (أبوه) بأجنبي عنھما وھو (حي). كما فصل بین الموصوف (حي) وصفته (یقاربه ) بأجنبى وھو (أبوه). وكذلك فصل بین البدل (حي) والمبدل منه  (مثلھا ) بكلام كثیر، وقدم المستثنى (مملكا)ً على المستثنى منھ (حي) فازداد البیت تعقیدا حتى ضرب بھ المثل في تعُّسف اللفظ كما یقول عبد القاھر الجرجانى( 1). ولا یكاد یخلو كتاب من كتب البلاغة من ذكر البیت شاھدا للتعقید اللفظي.
وقد حاول بعض المحدثین أن یلتمس العذر للفََرْزَدق بتزاحم المعاني في ذھنھ " فتزاحمت الألفاظ، واختلط بعضھا ببعض، بینما الشاعر في شغل عنھا، وقد تملكتھ العاطفة وسیطرت علیھ الفكرة، فلم یعبأ .( بنظام الكلمات المألوف " ( 2
والحق أن تملكُّ العاطفة لھ وسیطرة الفكرة علیھ لا یسِّوغان صنیعھ في اضطراب النظم على ھذه الصورة المختلة البناء، لأننا نقرأ شعرا كثیرا في غایة الجودة لفظا ونظما ووضوحا في مرامیھ وأغراضھ، فھل نقول في ھذا الشعر الخالى من التعقید إنھ لیس في درجة بیت الفرزدق من حیث تملكُّ العاطفة وسیطرة الفكرة ؟ ویبدو أن الفرزدق قد قصد إلى ذلك قصدا،ً لإثارة الجدل حول قوله  أو استعراض مقدرته  على التصرف في الكلام خصوصا إذا علمنا أنھ كان على خلاف دائم مع النحاة، فھو یتحداھم وھم یخطِّئونه ، حتى قال عبارته المشھورة: " علینا أن نقول، وعلیكم أن تحتجوا " ولذلك رأینا كثرة ھذه الأبیات في شعره بصورة ملحوظة. ویرى بعض الباحثین " أن الفرزدق وھو شاعر فحل یعرف طبائع اللغة. إنما فعل ذلك .([ تَھُّكما بالممدوح وولاء الفرزدق للعلوین، وعداؤه لبنى أمیة - والممدوح منھم - یغرى بھِذا الظن"([
وأیا ما كان الأمر فالبیت غیر فصیح؛ لما فیھ من التعقید اللفظى على نحو ما عرفتَ. ومن أمثل التعقید اللفظي قول الفرزدق أیضا:ً     
أبوه ولا كانت كلیبٌ تصُاھرِه إلى ملٍك ما أّمُھ من محاربٍ والمراد: إلى ملك أبوه ما أمھ من محارب، فقدم وأخر حتى جعل المعنى مبھما والنظم مختلًا. ومنھا قول المتنبى:
شِیمَ على الَحسَب الأغر دلائلُ     جَفخَت وھم یجفخون بھِا بھِم والمراد: جفخت بھِم شیم دلائل على الحسب الأغر، وھم لا یجفخون بھِا فقدم وأخر وفصل بین المتلازمین حتى أورث البیت تعقیدا لفظیا.ً ناھیك عن الغرابة في كلمة "َجَفَختْ"، وكلمة " یجفخون "، ولو
قال: (َفَخَرتْ) و(یفخرون) لأصبح بمنأي عن تلك الغرابة.
ومنھا قوله  أیضا:ً
أنَيَّ یكون أبا البریة آدمُ ***وأبوَك والثقلاِن أنتَ محمُد       
وأصلھا: أنى یكون آدم أبا البریة، وأبوك محمُد، وأنت الثقلان، أي: الجن والإنس، ومنھا قول الآخر یصف دارا بالیة:
فأصبحْت بعد خِّط بھجتھا  ***  كأن قفرّا رسوَمھا قلَما 
أي: فأصبحت بعد بَھجتھا قفرا كأن قلما خطّ رسومھا، فاختل نظمھا، وتعَّقد تركیبھا.
وربما یظن بعض الناس أن ضعف التألیف یغنى عن التعقید اللفظي، وھذا غیر صحیح؛ لأن التعقید اللفظي یكون باجتماع أمور تؤدى إلى استغلاق الكلام وصعوبة الوصول إلى معناه، وإن كانت جائزة باتفاق النحاة، كالتقدیم والتأخیر والحذف والإضمار ونحو ذلك، فالتعقید اللفظي غیر ضعف التألیف، ولكنھما قد یجتمعان في مثال واحد كما في بیت الفرزدق السابق. وینفرد ضعف التألیف في مثل: " ضرب غلاُمُه  زیداً " وفي مثل: " جاءنى أحمٌد " بتنوین أحمد، وینفرد التعقید اللفظي في مثل: " إلا عمرا الناسَ ضاربٌ محمٌد".([ وھذا جائز نحویا،ً وأصلھ: محمد ضاربٌ الناسَ إلا عمرا ([ 41
فالكلام الفصیح لابد أن یجىء ترتیب ألفاظھ في النطق على حسب ترتیب المعاني في الفكر، فلا تشتمل على ما یخالف الأصل من تقدیم أو تأخیر أو حذف أو إضمار إلا إذا قامت قرینة تدل علیھ، وبدون القرینة یكون الكلام مبھما معَّقدا بعیدا عن الفصاحة.
ب- التعقید المعنوى: وھو أن یكون الكلام غیر واضح الدلالة عل المعنى المراد بھ؛ لخلل واقع في انتقال الذھن من المعنى الأول المفھوم بحسب اللغة إلى المعنى الثانى المقصود، فلا یستطیع السامع أن یقف على المراد منھ، كقول العباس بن الأحنف:
سأطلبُ بعُد الدار عنكم لتقربوا ***وتسكب عیناي الدموَع لتجَمدا      
یقول الشاعر: سأوطِّن نفسي على تحمل الفراق، وُمقاساة الأحزان بالأشواق. لأحظي من وراء ذلك بوصل یدوم، ومسرة لا تزول، فإن الصبر مفتاح الفرج، ومع كل عسر یسر. ولكل بدایة نھایة.
وقد اشتمل الشطر الثانى من ھذا البیت على كنایتین: الأولى في قولھ (وتسكب عیناي الدموع) حیث كَّني بسْكب الدموع عن الحزن الشدید نتیجة الفراق. وقد أصاب في ھذا التخریج؛ لأن البكاء عنوان الحزن ودلیل علیھ كقولك: أبكانى وأضحكني، أي: سائني وسرنى، ومنھ قول حطان بن الُمَعليّ وھو أحد شعراء الحماسة:
أضحكني الدھُر بما یَرضي أبكانى الدَّھُر ویا ربَّما والكنایة الثانیة في قوله : (لتجمدا) حیث كَّني بجمود العین عن السرور بلقاء الأحَّبة، والفرح بالوصال، وقد أخطأ في ھذا، لأن الجمود ھو خلو العین من الدموع في حال إرادة البكاء منھا، فلا یكون كنایة عن السرور، وإنما ھو كنایة عن بخُل العین بالدموع وقت إرادة البكاء. ودلیل ذلك:
1- وروده في الشعر كثیرا بھِذا المعنى كقول الشاعر:
إن عینا لم تجَُْد یوم واسٍط ***علیِك بجاري دمعھا لجَموُد ألا
وقول الخنساء:
أعینى جوَدا ولا تجَُْمدا*** ألا تبكیاِن لصخِر الندَّى
فالجمود في كلا البیتین كنایة عن بخُل العین بالدمع وقت الحزن والأسى فھي عین جمود.
2- قول أھل اللغة: " سَنٌة جماد " لا مطر فیھا، وناقة جماد: لا لبن لھَا، ویعنى ھذا: أن السنة بخیلة بالقطر، والناقة لا تسخو بالدر.
3- لو كان جمود العین یصلح أن یكَُّنى بھ عن السرور، لجاز أن یدُعى به للرجال، فیقال: لا زالت عینك جامدة، كما یقال: لا أبكي الله عینك، وذلك مما لا شك في بطلانھا. فقد اتضح لك التعقید المعنوي في قول العباس بن الأحنف " لتجمدا" وذلك بسبب خفاء الانتقال من المعنى اللغوي إلى المعنى المراد، وھو المعنى الكنائى الذي یریده، الشاعر أي السرور بلقاء الأحبة، مع أن جمود العین في الاستعمال العربي الشائع إنما یكون كنایة عن بخلھا بالدمع حال إرادتھ منھا، ھذا مما عَّقد الكلام وأبعده عن میدان الفصاحة.
بید أن بعض العلماء نظر إلى ھذا البیت من زاویة أخرى فرأي فیھ رأیا مغایرا لما قلناه، یقول أبو العباس المبرد: " ھذا رجل فقیر یبعد عن أھله ویسافر لیحصل على ما یوجب لھَم القرب وتسكب عیناه الدموع في بعده عنھم، لتجمد عند وصولھ إلیھم"( 1) وبذلك یخرج بالبیت من دائرة التعقید المعنوي على ھذا المعنى الذي انتھي إلیه.
ومن أمثلة التعقید المعنوي أیضا أن تقول: " نشر الملكُ ألسنتَھ في المدینة " أي جواسیسھ، ولیس من المعھود استعمال اللسان بمعنى الجاسوس؛ إذ لا تلازم بین اللسان ومعنى الجاسوسیة، وإنما المعھود استعمال اللسان بمعنى اللغة، قال تعالى: (َوَما أرَسلنْ مْن رُسوٍل إلِا بلِسِاِن قَوْمِه ) [إبراھیم: 4] أي متكلما بلغة قومه ، فاستعمال اللسان في معنى الجاسوس غیر مفھوم، لخفاء اللزوم بین المعنیین، وھذا تعقید معنوي یسلب الكلام فصاحته .
ومنھ قول زھیر بن أبى سلمى:
وَمْن لم یزَد عن حوضِه  بسلاحه ***یھُدَّم وَمْن لا یظَلِم الناس یظُلمَ      
فقد استعمل الظلم في معنى " الدفاع عن النفس "، والظلم تسلیط الأذى على الناس لا دفع الأذى عن النفس، فلا علاقة بین المعنى الحقیقي والمعنى الكنائي الذي أراده الشاعر، وبذلك لا ینتقل الذھن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني بسھولة، لخفاء اللزوم بین المعنیین، ففي البیت تعقید معنوي، وإن كان من الممكن أن یجعل ھذا التعبیر من قبیل المشاكلة كقول تعالى:(وجزاء سیئة سیئة مثلھا) وبذلك یكون فصیحا على ھذا النحو من التوجیه .
 .
تطور البلاغة من خلال الكتب المنهجية والكتاب المنهجيين من النقاد والبلاغيين، ودارسي الإعجاز القرآني


كتاب الصناعتيين
أبو هلال العسكري
(توفي بعد 395هـ/1004م)
 الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد، أبو هلال العسكري، أديبٌ، ناقدٌ، لغويّ، من أعلام المئة الرابعة للهجرة.
ولد في بلدة «عسكر مُكْرَم» في الأهواز لأسرة مثقفة عُرف منها والده، وعمّ والده، بيد أن المصادر التي ترجمت له سكتت عن نشأته وعن مراحل حياته الأولى، وكل ما ذكرته أنه كان يزاول تجارة الثياب مع سعيه إلى التحصيل العلمي، وقد أشار أبو هلال نفسه إلى مهنته غير مرّة في شعره، من ذلك قوله:
جلوسيَ في سوقٍ أبيع وأشتري  *** دليل على أنّ الأنامَ قرود
ولا خير في قومٍ تذلّ كرامهم    *** ويَعظمُ فيهم نَذْلُهم ويسود
ويهجوهم عني رثاثة كسوتي  ***   هجاءً قبيحاً ما عليه مَزيد
والناظر فيما تبقى من شعره يلحظ حديثه المتكرر عن فقره وسوء حاله وإحساسه بالمرارة، كقوله:
بليت بهجران وفقرٍ وفــــاقة  ***   وكثرة حاجات وثِقْل ديونِ
وأعظمها أن الزمان يسومني  *** وقوفاً على أبواب من هو دوني
وكان العسكري يشعر أن اشتغاله بالعلم حرمه أسباب الغنى، كقوله:
تالله لم تخطئك أسباب الغنى    ***     لا لأنك عاقل وأديب
وقوله:
فأين انتفاعي بالأصالة والحجَى ***  وما ربحت كفي من العلم والحِكَمْ
ومنذا الذي في الناس يبصر حالتي*** فلا يلعن القرطاس والحبر والقلم
والظاهر أن أحوال العسكري لم تكن كذلك دوماً، فثمة إشارات في شعره إلى حياة أقرب إلى الدَعَة تحدث فيها عن غِلمان يَسْعَون بين يديه إلى الطعام والشراب، وعن دعوته أصدقاءه لحضور مجالسه تلك، وثمة إشارات أخرى في شعره إلى وقيعة وقعت بينه وبين أحد الولاة، فصودرت أمواله، فعرّض العسكري بهذا الوالي ثم عاد فاسترضاه.
وليس بين أيدينا دليلٌ على أن العسكري عمل في خدمة بعض الرؤساء، وإن كان بعض الدارسين ذهبوا إلى أنه عمل في خدمة الصاحب بن عبّاد، وليس هذا ببعيد، فقد كان أبو هلال يُطريه ويستشهد بأقواله، ويمدحه، وقد زار هذا الوزير عسكر مكرم سنة 379هـ ولقي أبا أحمد العسكري أستاذ أبي هلال وأنعم عليه وعلى تلامذته، كما ذكر ياقوت.
ولم تكن أخبار أبي هلال المتصلة بحياته العلمية أحسن حالاً من حياته العامة، وفوق ذلك ثمة خلطٌ لم يسلم منه القدماء والمعاصرون بينه وبين أستاذه أبي أحمد العسكري (الحسن بن عبد الله بن سعيد المتوفى 382هـ) لاتفاقهما في الاسم واللقب، ولم تذكر المصادر من شيوخ أبي هلال إلا أستاذه هذا، وقد لازمه أبو هلال مدة طويلة، وأخذ عنه كثيراً من مروياته، وتأثر بآرائه الأدبية والنقدية، ونقل ياقوت عن بعضهم أن أبا هلال هو ابن أخت أبي أحمد العسكري، وهو زعمٌ بعيد لأن من عادة أبي هلال إذا نقل عن قريبٍ له أن ينصّ على صلة القرابة، كقوله غير مرة: «قال عمّ والدي» فلو كان أبو أحمد خاله لنص على ذلك في مصنفاته ولاسيما أنه كان دائم النقل عنه.
ومهما يكن فثمة إشارات كثيرة في مصنفاته إلى أساتذة وشيوخ لا تكاد تُعرف إلا أسماؤهم، من ذلك والده، وعم والده الحسن بن سعيد، ومنهم: أبو حامد، وأبو علي الحسن بن جعفر، وعبد الحميد بن محمد بن يحيى بن ضرار، وأبو القاسم عبد الوهاب الكاغدي.
ولم تشر المصادر إلى تلامذته إلا لماماً كأبي سعد السمّان (ت 445هـ)، وأبي الغنائم بن حماد المقرئ، وأبي حكيم أحمد بن إسماعيل العسكري، وأبي إسحاق إبراهيم بن علي اللغوي النحوي.
وعلى الرغم من قلة الأخبار المتصلة بحياة أبي هلال ثمة أمر جليّ لا يمكن إغفاله وهو أن الرجل قضى شطراً من حياته في الدرس والتأليف، وأنه خلف للمكتبة العربية طائفة من الكتب تناولت فروعاً مختلفة من المعرفة  كاللغة والأدب والتاريخ والحديث والتفسير، وقد ضاع منها ما يقرب من النصف وانتهى إلينا مطبوعاً ما يزيد على عشرة كتب، وأشهرها: «كتاب الصناعتين» وهو كتاب نقدي مشهور أقيم على أسس بلاغية، والمراد بالصناعتين صناعتا الكتابة والشعر، وقد مهد له العسكري بمقدمة نوّه فيها بمعرفة علم البلاغة وضرورته لفهم إعجاز القرآن الكريم، وللتمييز بين جيد الكلام ورديئه، ولوقوف الكاتب والشاعر على ما ينبغي استخدامه من أساليب اللغة وألفاظها الجيدة البليغة، ثم صرح بقصده وهو الكشف عن الحدود والأقسام لوجوه البيان، ولهذا الغرض جعل كتابه في عشرة أبواب: أولها لموضوع البلاغة وحدودها، وثانيها لتمييز الكلام جيده من رديئه، وثالثها في معرفة صنعة الكلام وترتيب الألفاظ، ورابعها في حُسن النظم وجودة الرصف، وخامسها للإيجاز والإطناب، وسادسها للسرقات الشعرية، وسابعها للتشبيه، وثامنها للسجع والازدواج، وتاسعها لفنون البديع، والعاشر لحسن المبادي والمقاطع وجودة القوافي:
والكتاب غني بمادته شعراً ونثراً، وغني أيضاً بملاحظات نقدية، وفيه تأصيلٌ لكثير من قواعد البلاغة، ومن كتبه المشهورة أيضاً «ديوان المعاني» جمع فيه أبو هلال كما قال: «أبلغ ما جاء في كل فن وأبدع ما روي في كل نوع من أعلام المعاني وأعيانها…» وجعله اثني عشر باباً، أولها باب «في التهاني والمديح والافتخار» وآخرها باب «في صفات أشياء مختلفة».
وله أيضاً كتاب «التلخيص في معرفة أسماء الأشياء»، وهو معجمٌ في المعاني والصفات جعله أبو هلال في أربعين باباً، بدأها بموضوع الإنسان فذكر خلقه وصفاته، وما يتعلق به، ثم انتقل إلى موضوع السماء والنجوم والأزمنة، ثم إلى أسماء النبات والشجر والثمار وذكر الزراعة وأدوات الزارعين، ثم انتقل إلى الجماد.
وله أيضاً كتاب «الأوائل»، وهو كتاب طريف يندرج في باب التأريخ، جعله أبو هلال في عشرة أبواب عرض فيها لأحداث ومناسبات عزيت لأشخاص هم أول من قاموا بها في الجاهلية والإسلام، كحديثه عن أول من كسا الكعبة، وأول من غير الحنيفية وعبد الأوثان، وأول من اتخذ الديوان، وأول من أخذ زكاة الخيل، وأول من لبس السواد، وأول من جمع العراقين، وأول من وضع الإعراب، وأول امرأة وضعت في نعشٍ من العرب.
وللعسكري ديوان شعر جمع فيه محققه ما تبقى من شعره، ونشر في مجمع اللغة العربية بدمشق.



كتاب سر الفصاحة
ابن سنان الخفاجي
(423ـ466هـ/1032ـ1073م)
 عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي، أبو محمد، ينتسب إلى بني خفاجة من بني حَزْن، وهم أولاد خفاجة بن عمرو بن عقيل، وهي قبيلة عربية تنتمي إلى عدنان. ولد في قلعة عزاز، وهي من القلاع المحيطة بمدينة حلب، وكان أبوه أحد وجهاء هذه القلعة. وقد عرفت أسرته بالعلم والأدب.
زار ابن سنان الخفاجي مدينة حلب وأخذ عن علمائها، ومنهم أبو نصر المنازي، وقد حظي بصحبة أبي العلاء المعري فتلقى علومه على يديه، وتتلمذ له، وانتفع به كثيراً، وكان يكثر من التمثيل بشعره في كتبه، ويدعوه بشيخه، وربما كان أبو العلاء المعري قد أثر في فكر ابن سنان وفي نظرته إلى الحياة فأكسبه النظرة التشاؤمية أحياناً والسخط على ما يجري من حوله، وقد عبر عن شيء من ذلك بقوله:
أستغفرُ اللهَ لا مالٌ ولا شرفُ   ***   ولا وفاءٌ ولا دينٌ ولا أنفُ
كأنما نحنُ في ظلماءَ داجيةٍ   ***   فليس ترفعُ عن أبصارِنا السجفُ
ولكن ابن سنان الخفاجي يختلف عن أبي العلاء في أنه قد شارك في الحياة السياسية في عصره، فقد كان على صلة بوزير حلب أبي نصر محمد ابن النحاس الذي زكّاه عند أمير حلب، فولاّه قلعة عزاز التي ولد فيها، ولكنه لم يكن راضياً بما نال من السلطة، وقد بدت منه تصرفات أحنقت الأمير عليه، فاستعصى بالقلعة، مما دفع الأمير إلى تدبير مكيدة له انتهت بقتله، وقد حُمل إلى مدينة حلب، وصلى عليه الأمير محمود، ودفن فيها. وكان يرى رأي الشيعة الإمامية.
عُرف ابن سنان بعلمه الواسع في البلاغة العربية والنقد وعلوم العربية الأخرى، وترك عدداً من الآثار التي تدل على طول باعه في هذه العلوم، ومما وصل منها كتاب «سر الفصاحة» الذي ألفه سنة 454هـ، ولهذا الكتاب منزلة كبيرة عند الباحثين في العربية وبلاغتها ونقدها؛ ففيه آراء مهمة في بعض القضايا البلاغية والاصطلاحات النقدية، كما يظهر أن مؤلفه قد اطلع على جهود البلاغيين والنقاد الذين سبقوه واستوعبها وأضاف إليها نظراته الثاقبة، حتى إن الناقد ابن الأثير قد أثنى على هذا الكتاب.
وللخفاجي من التصانيف الأخرى كتاب «الصرفة»، وكتاب «الحكم بين النظم والنثر»، وهو صغير، وكتاب «عبارة المتكلمين في أصول الدين»، وكتاب «في رؤية الهلال»، وكتاب «حكم منثورة»، وكتاب «العروض».
عرف ابن سنان أيضاً بأنه كان شاعراً أديباً، وهو في شعره يصور نفسه المضطربة الرافضة للواقع الطامحة إلى الأفضل، وشعره يمتاز بالجزالة والفخامة والجودة والقوة وهو في بعضه شبيه بشعر أستاذه المعري.
من أغراض شعره المدح؛ وكانت أكثر مدائحه في الأمير محمود بن نصر بن صالح بن مرداس، وله قصائد تسمى الإخوانيات كان يوجهها إلى أصدقائه حين يكون بعيداً عنهم، وله قصائد في الغزل والفخر، وله في الرثاء قصائد جميلة يأتي على رأسها قصيدته العينية في رثاء أمه ومطلعها:
أبكيكِ لو نهضَتْ بحقِّك أدمعُ  ***   وأقولُ لو أنَّ النوائبَ تسمَعُ



  
1 – قضية الإعجاز:              
ظل النص القرآني قطب الرحى في معترك التحولات الفكرية والحضارية في تاريخ الإسلام؛ لاعتبارات، منها:
-    أنه وحي إلهي يحمل منهج حياة ومصدر تشريع لهذه الحياة منذ أن شعَّ نورُه في الوجود إلى أن تنتهيَ حياة البشر على الأرض. من هنا وجب – وإن لم يتحقق ذلك بالصورة المطلوبة -  أن تتحدد به ومن خلاله التجربة البشرية على الأرض، وبالتالي الرؤية الحضارية للمجتمعات البشرية في تفاعلاتها وصراعاتها وتحولاتها على امتداد وجودها في تاريخ تلك التجربة الأرضية.
-    أنه وحي إلهي استُحدث من خلاله ومن أجل فهمه ما ظهر من أنماط المعرفة خلال الحقب الإسلامية.
-    أنه وحي إلهي يحمل خطابا بليغا معجزا بأدائه البياني، ومن بيانه هذا اتصلت جهود النحاة والبلاغيين والمفسرين والمتكلمين بالتصورات الأدبية والجمالية والفنية فتبلورت نظرية الإعجاز.
   وكانت قضية الإعجاز من أخطر القضايا التي جابهت الإسلام والمسلمين؛ ذلك أن المُغرضين تسربوا منها يبغون المساس بقدسية الوحي، وتحطيم حضوره في آخر رسالات السماء إلى الأرض. في هذا المضمار اندفع علماء الإسلام من لغويين ونحاة ومفسرين ومتكلمين وبلاغيين يدافعون عن القرآن، يتعمقون أسرار دينهم بتعمقهم في مناحي القول الإلهي في النص، وبتسلحهم بالأداة الجدلية الضرورية؛ لتبديد كل تمويه وتزييف. فكان من ذلك جهود دفعت مطاعن الملحدين، وفتقت أسرار البيان القرآني، وانتهت بعلم مستقل في القرن الهجري الرابع هو « علم إعجاز القرآن».
ويبدو أن قضية إعجاز القرآن ببعديْها: الكلامي والبلاغي قد استقطبت اهتمام علماء الكلام؛ لا يحدوهم في ذلك الدفاع عن العقيدة الإسلامية وحسب، بل كذلك ترسيخ الكيان الإسلامي في مواجهة التحديات والعقائد السابقة والمذاهب الوافدة. وفي مجال إثبات حقيقة الإعجاز في القرآن تكاملت النظرية وأخذت حيزها في العقيدة والفن.
2  - الخطابي و رسالته« بيان إعجاز القرآن»:
أ - الخطابي: (319 – 388 هـ):
 هو أبو سليمان حَمَد بن محمد الخطابي البُستي ( نسبة إلى بلاد بُسْت من بلاد كابل): وهو أحد أحفاد عمر بن الخطاب. نشأ محبا للعلم، وطوف من أجله في البلاد الإسلامية شرقاً وغرباً للتزود من العلماء، إلى أن أدرك مكانة مرموقة فيه، وأصبح مُحَدّثا فقيها أديبا شاعرا لغويا. وقد روى له الثعالبي بعض شعره في «يتيمة الدهر». وقد جعله معاصروه في الدقة العلمية والورع والتقوى قريناً لأبي عبيد القاسم بن سلام (224هـ). وكان أبو سليمان يكسب قوته في التجارة، وفي أخريات حياته مال إلى التصوف. وتوفي سنة 388 هـ.
ولأبي سليمان كتبٌ في الحديث والفقه؛ دلّت على أنه من الأئمة الأعلام المجتهدين في قواعد الأحكام. وبفضلها عُدَّ من أعلام الفكر الإسلامي في القرن الرابع الهجري ومن الذين امتازت كتبهم بغزارة المادة وعمق الفكرة، ودقة الاستنباط. كان فقيها محدثا أصوليا جمع بين الحديث والفقه. ومن أشهر كتبه « غريب الحديث». وهو في نهاية الحسن والبلاغة على حد قول ياقوت الحموي. وله « أعلام السنن في شرح صحيح البخاري»، و«معالم السنن في شرح سنن أبي داود السجستاني». وكتاب « إصلاح خطأ المحدثين» ( وقد طُبع في القاهرة سنة 1936م).
      ب – رسالته: « بيان إعجاز القرآن»:
       ( نشرها عبد الحليم عليجرة سنة 1953م، وشرحها وعلق عليها عبد الله الصديق، وأظهرها بمطبعة دار التأليف بمصر سنة 1953م، ثم نشرها مرة أخرى محمد أحمد خلف الله وزغلول سلام ضمن « ثلاث رسائل في إعجاز القرآن» - القاهرة 1955م) (1).
وقد اشتهرت رسالة الخطابي هذه بين كتب الإعجاز؛ لأنها كانت من أوائل الرسائل التي تصدّت لقضية الإعجاز؛ ولأنها تمثل رأي أهل الحديث في الإعجاز في القرن الرابع الهجري.
  
حقيقة الإعجاز في النص القرآني:

       أ – سبب الخلاف في حقيقة الإعجاز:
بدأ الخطابي رسالته بالبحث عن سبب الخلاف بين الباحثين في الوجه أو الوجوه التي كان بها القرآن معجزاً فقال:« قد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديما وحديثا. وذهبوا فيه كل مذهب من القول، وما وجدناهم  بعْدُ صدروا عن ري؛ وذلك لتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن، ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيته» [21] (2).
       وذهب قوم إلى أن العلة في إعجازه الصَّرْفة...
وزعمتْ طائفةٌ أن إعجازَه إنما فيما يتضمنه من الإخبار عن الكوامن في مستقبل الزمان... وزعم آخرون أن إعجازه من جهة البلاغة، وهم الأكثرون من علماء أهل النظر، وفي كيفيتها يعرض الإشكال... [22 -23]
وسبب هذا الإشكال ما يلي:
التسليم بالإعجاز البلاغي بناءً على التقليد وغلبة الظن دون التحقيق له وإحاطة العلم به.
العجز عن إدراك العلة في الإعجاز، وعدم القدرة على تصويره وتحديده، « وإنما يعرفه العالمون به عند سماعه ضربا من المعرفة لا يمكن تحديده... وقد يخفى سببه عند البحث ويظهر أثره في النفس حتى لا يلتبس على ذوي العلم والمعرفة به»[24]. وكأن حقيقة الإعجاز تُدرك بالوجدان وتُلمَح بالبصيرة، وليست مما يقع في مجال النظر أو يخضع لمقاييس المنطق.
ويقول الخطابي:« وهذا لا يُقنع في مثل هذا العلم، ولا يُشفي من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أُحيل به على إبهام» [24].
 ب – تحقق الإعجاز في التاريخ:
إذا كان الإعجاز قضية إيمانية لا خلاف في حقيقتها؛ فإن ظاهرة الإعجاز تحققت تاريخيا وأصبحت واقعةً موقعَ اليقين عند المسلمين.« والأمر في ذلك أبينُ من أن نحتاج أن ندل عليه بأكثر من الوجود القائم المستمر على وجه الدهر، من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن الذي نحن فيه»[21].
فالخطابي يستدل على استقرار حقيقة الإعجاز، وثبوت التحدي للعرب قاطبة؛ بكون الرسول صلى الله عليه وسلم ظل «يُطالبهم به مدة عشرين سنة، مُظْهراً لهم النكير، زارياً على أديانهم، مُسَفّهاً آراءهم وأحلامهم؛ حتى نابذوه وناصبوه الحرب؛ فهلكت فيه النفوس وأُريقت المُهَج، وقُطعت الأرحام، وذهبت الأموال»[21].
       ولو كان ذلك في وسعهم، وتحت أقدارهم لم يتكلفوا هذه الأمور الخطيرة. وهكذا عجزوا عن معارضة القرآن، وهم الموصوفون بالبيان، ووفارة العقول، وكان فيهم الخطباء المصاقع والشعراء المُفْلقون، وقد وصفهم الله بالجدل واللدد. فقال سبحانه:« ما ضَرَبوهُ لكَ إلاَّ جَدَلاً بلْ هم قومٌ خَصمون»[ الزخرف:58] وقال سبحانه:« وتُنذرَ به قوماً لُدّاً» [ مريم:97].
       ج – الأثر النفسي للقرآن:
يختم الخطابي رسالته بذكر وجه آخر من وجوه إعجاز القرآن؛« ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم؛ وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس؛ فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا، إذا  قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه. تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها (...).
       خرج عمر بن الخطاب -  رضي الله عنه - يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمد لقتله، فسار إلى دار أخته وهي تقرأ سورة طه، فلما وقع في سمعه لم يلبث أن آمن
       ولما سمعته الجن لم تتمالك أن قالت: « إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به» [ الجن/1 -2] [ 70 – 71].
       والخطابي يلفتنا هنا إلى تلك الهيمنة النفسية التي يأخذ بها القرآن قارئه فيستولي بها على النفوس، ويأسر بها المشاعر. ويورد من الأمثلة التاريخية والآيات القرآنية ما يشهد للقرآن بذلك السر المضمر فيه، وتلك الروعة والسطوة اللتين يجدهما من يستمع إلى القرآن أو ينظر فيه. وكيف لا وقد قال رب العزة:« لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لرَأَيْتَه خَاشعاً مُتَصَدّعاً منْ خَشْيَة الله وتلكَ الأمثالُ نَضْربُها للنَّاس لَعلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ» [ الحشر:21].
       وقد روي عن بعضهم أن قال: فتحت الأمصار بالسيوف، وفتحت المدينة بالقرآن[ 71].ل هذا الشأن مع عظيم خطره وجلالة قدره لجاز أن يكون في ذلك العصر نبي آخر.
       وهنا يورد الخطابي ما عورض به القرآن « وهو ما ما تنوقل من أجل المقارنة والتفكّه»، ثم يوازن بينه وبين القرآن؛ لتتضح معالم نظريته في النظم بالمقارنة. فما حُكيَ عن مسيْلمة الكذاب من قوله: « ياضفدع نقّي كما تنقين، لا الماء تكدرين ولا الوارد تنفرين»ن أو كقوله:« ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحُبلى، أخرج منها نسمةً تسعى، بين شراسيف وحشى».
       وقد وجد الخطابي في مثل هذا كلاما خاليا من كل فائدة، لا لفظُه  صحيح ولا معناه مستقيم، ولا فيه شيء من الشرائط الثلاث التي هي أركان البلاغة. وإنما تكلّف هذا الكلامَ الغثّ لأجل ما فيه من السجع. والساجع عادته أن يجعل المعاني تابعة لسجعه ولا يُبالي بما يتكلم به إذا استوت أساجيعه، واطردتَ، ولخلوّ هذا الكلام من كل نوع من الفوائد. قال أبو بكر رضي الله عنه حين طرقتْ سمعَه: أشهدُ أن هذا الكلامَ لم يخرج من بال [55 – 56].
       وبعد تحليل هذا الكلام الذي نُسب إلى مسيلمة، يتساءل الخطابي عن وجود البلاغة فيه، وعن المعنى الذي يحتويه، وعن الحكمة التي يحتضنها، حتى يُتوهّم أن فيه مُعارضةً للقرآن. وعلى أي حال فإن الباحث يستفيد من هذه المقارنة ما يلي:
       أ – أن موازنة مسيْلمة ستصبح ظاهرة متبعة عند دارسي الإعجاز.
       ب – أن مقاييس الموازنة بين نصين فَنّيَيْن هو ما أوضحه من شرائط النظم.
       ج – أن الخطابي أفاد المؤرخ، والمفسر، والناقد، وأبان عن ذوق فني مُرهف، وعن إدراك لأسرار التعبير.     
قضايا الرسالة وقيمتها
        1 – جانب الإعجاز القرآني:
إن هذه الرسالة تمثل رأي أهل الحديث في الإعجاز في القرن الرابع الهجري، وتضم أقولا مختلفة قيلت في القرآن، وقد صنفها صاحبها تصنيفا محكما دل على خبرته بالبلاغة العربية في حقيقتها: ويعتبر صاحبها من أسبق علماء المسلمين إلى البحث عن الإعجاز بحثا علميا منظما.
       ورأي الخطابي في الإعجاز يمكن إيجازه في ثلاثة وجوه:
-         الوجه الأول: الإحاطة الإلهية بأسرار اللغة حتى جاء القرآن معجزا لفظا ومعنى ونظما.
-         الوجه الثاني: الإعجاز كامن في النظم الذي انفرد به القرآن، أي بهذا الأسلوب من النظم الذي جمع بين أفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، وجاء مضمنا أصح المعاني. وبهذا أكد أن الإعجاز حاصل من جهة البلاغة. فكانت رسالته محاولة لبيان ماهية هذه البلاغة ومعالمها.
-         الوجه الثالث: ما للقرآن من أثر في النفس. فقد تنبه الخطابي إلى تأثير بلاغة القرآن في النفوس. وَعَدّ هذا التأثير وجها من وجوه الإعجاز.
2 – جانب البلاغة:
يبدو أن الخطابي حين هاجم التقليد في معرفة الوجه البلاغي لإعجاز القرآن؛ إنما كان يدعو إلى تربية الذوق البلاغي السليم بمدارسة فنون القول والتأمل فيها. فقد لاحظ المنحى الاستعاري في التعبير، وذكر أن الاستعارة قد تكون « في بعض المواضع أبلغ من الحقيقة، كقوله عز وجل:( فاصْدَعْ بما تُؤْمَر)؛ فالصدْعُ هاهنا مستعار وهو أبلغ منه لو قال: فاعْمَلْ بما تُؤمر، وإن كان هو الحقيقة. والصدع مُستعار،وإنما يكون ذلك في الزجاج ونحوه من فلّز الأرض، ومعناه المبالغة فيما أمر به حتى يؤتّر في النفوس والقلوب تأثيرَ الصدْع في الزجاج ونحوه»[44].
وعلى أي حال، فإن الخطابي بتصوره للنظم حاول تغيير دراسة البلاغة حين تقف عند حدود الشكليات. فقد رأى في عملية النظم ذلك التفاعل الطبيعي والربط الجدلي بين اللفظ والمعنى لنقل التجربة الفنية عموما. ولاحظ د. محمد زغلول سلام أن الخطابي نبه في النصف الأخير من القرن الرابع إلى شيء جديد في الأسلوب غير اللفظ والمعنى؛ ذلك هو النظم ليصرف علماء البلاغة عن تلك البحوث إلى بحث أصيل ينبغي مراعاته(5).
   3 – جانب النقد الأدبي:
إلى جانب ما أبان عنه الخطابي في نقضه الاعتراضات الموجهة إلى النظم القرآني، من قدرة على تأويل الآيات، وتوجيهها، وفهم أنماط تعبيرها؛ عرض أثناء بسطه لنظريته في النظم وتطبيقاته على القرآن والمأثور العربي بعض القضايا النقدية التي برزت فيها طاقته الأدبية وذوقه الفني؛ مما جعل الدرسَ الإعجازيَّ رافداً من روافد النقد الأدبي؛ باعتبار أن النص القرآني هو النص الأدبي الأول للأمة العربية الإسلامية.
أ – قضية المعارضة:
انطلاقا من نفي المعارضة عن القرآن، وفحص كلام مسيلمة في ضوء النظم القرآني وبيان قصوره عن أوصاف المعارضات؛ يُحدد الخطابي ما يحسن أن يتوافر في النصيْن البَشريَيْن المتعارضيْن من شروط وخصائص. وينتهي إلى مقارنة بين امرئ القيس والنابغة الذبياني في وصف الليل.
   يقول النابغة:
   كليني لهمّ يا اُميـــــمةَ ناصــب          وليــــــــل أقاسـيه بطيء الكواكـب
    تطاوَلَ حتى قلتُ ليس مُنْقَـــض        وليس الذي يرعى النجــــوم بآيـــب
   وصدر أراحَ الليلُ عازبَ همّه        تضاعف فيه الحزنُ من كل جانب
   ويقول امرؤ القيس:
   وليل كموج البحر أرخى سدولَه      عليَّ بأنواع الهمـوم ليَبتلـــــــي
   فقلتُ له لما تمطّــــى بصـــلبـه       وأردف أعجــازاً وناء بكـــلكــل
  ألا أيُّها الليلُ الطـــويلُ ألا انجــل       بصبح وما الإصباح منك بأمثل
   فيالك من ليـــل كأن نجــــومَــه        بكل مُغار الفتل شُدَّتْ بيذبـــــل
    يبدأ الخطابي المقارنة بقوله إن افتتاح النابغة « مُتناه في الحسن، بليغ في وصف ما شكاه من همه وطول ليله. ويقال إنه لم يبتدئ شاعرٌ قصيدةً بأحسنَ من هذا الكلامَ. وقوله:
        وصدر أراح الليلُ عازبَ همّه، مستعارٌ من إراحة الراعي الإبل إلى مباتها، وهو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة والعذوبة، إلا أن في أبيات امرئ القيس بين ثقافة الصنعة وحسن التشبيه وإبداع المعاني ما ليس في أبيات النابغة؛ إذ جعل لليل صلباً وأَعْجازاً وكَلْكلاً، وشبّه تراكم ظلمة الليل بموج البحر في تلاطمه عند رُكُوب بعضه بعضاً حالا على حال، وجعل النجوم كأنها مشدودة بحبال وثيقة فهي راكدة لا تزول ولا تبرح، ثم لم يقتصر على ما وصف من هذه الأمور حتى عللها بالبلوى ونبه فيها على المعنى، وجعل يتمنى تَصَرُّمَ الليل بعود الصبح لما يَرجو فيه من الرَّوْح، ثم ارْتَجَعَ ما أعطى واستدرك ما كان قدمه وأمضاه، فزعم أن البلوى أعظمُ من أن يكونَ لها في شيء من الأوقات كشْفٌ وانْجلاءٌ (...) وهذه الأمور لا يتفق مجموعها في اليسير من الكلام إلا لمثله من المبرّزين في الشعر الحائزين فيه قصَب السبق (...).
    فمثل هذه الأمور تُعتبر معاني المعارضة فيقع بها الفصلُ بين الكلاميْن من تقديم لأحدهما أو تأخير أو تسوية بينهما» [62 – 63].
     الواقع أن هذه الوقفات التحليلية الدقيقة في المعارضات والمقارنات، تنم عن ذوق فني له خبرة بتحليل النصوص والموازنة بين أساليبها وإدراك لمواطن الجمال فيها. ولا أشك في أن أمثال هذه التحليلات الأدبية قد مهّدت السبل لمن اهتم بأسلوب القرآن كأبي بكر الباقلاني (403هـ) الذي عُنيَ بتحليل معلقة امرئ القيس وذلك في معرض احتجاجه لبلاغة القرآن، أو من عُنيَ بالموازنة كأبي القاسم الآمدي (371هـ). وبذلك يمكن القول إن الرؤية الإعجازية في مستوياتها الفنية قد أسهمت بفاعلية في الرؤية النقدية.
ب – قضية القدم والحداثة:
من القضايا النقدية التي شغلت الساحة النقدية خلال مرحلة التدوين، نجد قضية الصدام بين القدماء والمحدثين التي كشفت عن التحول الحضاري الذي شهدته الأمة الإسلامية في صيرورتها التاريخية، وقد لاحظ الخطابي ذلك التحول الذي لحق اللغة العربية بتقادم العهد، من نزول الوحي إلى عهده، فقد ذهب مَن يُحسن الكلام من القدماء. أمّا شعر المولدين فقد « دخله الخلل (...) ولهذا صار العلماء لا يحتجون بشعر المحدثين، ولا يستشهدون به، كبشار بن برد، والحسن بن هانئ، ودعبل والعتابي، وأحزابهم من فصحاء الشعراء والمتقدمين في صنعة الشعر ونجره. وإنما يرجعون في الاستشهاد إلى شعراء الجاهلية وإلى المخضرمين منهم، وإلى الطبقة الثالثة التي أدركت المخضرمين؛ وذلك لعلمهم بما دخل الكلام في الزمان المتأخر من الخلل والاستحالة عن رسمه الأول» [46]. 
يمكن القول إن أبا سليمان الخطابي كان رائداً في تحليل فكرة الإعجاز بأدلة لغوية جمالية، فتجاوز أمر الدفاع عن عروبة القرآن، إلى تقرير وإثبات ظاهرة الإعجاز في النص القرآني بتجلياتها الجمالية ومناحيها البلاغية كما كشف عنها النظم القرآني. والحق أن المتأمل في معالجة الخطابي لقضية الإعجاز يراه يعالجها وكأنها قضية من قضايا علم الجمال، أساسها النص اللغوي القرآني في مستوياته التعبيرية وقدراته الإيحائية، وشحناته النفسية.


المثل السائر لضياء الدين بن الاثير

اسمه : هو ابن الأثير القاضي مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري ثم الموصلي(544-606هـ)
مولده :
  
ولد بجزيرة ابن عمر 544 هـ ونشأ بها .
تعليمه :
نشأ ضياء الدّين بن الأثير في أسرة عربيّة شيبانيّة ثريّة ذات مكانة لدى الأتابكة. وكان لهذه النّشأة أثر في اعتداده بنفسه، وتفرّغه للعلم، وتفتُّح موهبته الأدبية، وطموحه إلى المكانة السيّاسيّة.
تلقى مجد الدين بن الأثير العلم منذ صغره في مدارس بلدته جزيرة ابن عمر وانتقل مع والده إلى الموصل "في رجب سنة تسع وسبعين وخمسمائة" وبها اشتغل وحصل العلوم وحفظ كتاب الله الكريم وكثيراً من الأحاديث النبوية وطرفاً صالحاً من النحو واللغة وعلم البيان وشيئاً كثيراً من الأشعار حتى قال في أول كتابه الذي سماه "الوشي المرقوم" ما مثاله: "وكنت حفظت من الأشعار القديمة والمحدثة ما لا أحصيه كثيرة، ثم اقتصرت بعد ذلك على شعر الطائيينحبيب بن أوس، يعني أبا تمام، وأبي عبادة البحتري، وشعر أبي الطيب المتنبي، فحفظت هذه الدواوين الثلاثة، وكنت أكرر عليها بالدرس مدة سنين، حتى تمكنت من صوغ المعاني، وصار الإدمان لي خلقاً وطبعاً" وإنما ذكر هذا الفضل في معرض أن المنشئ ينبغي أن يجعل دأبه في الترسل حل المنظوم، ويعتمد عليه في هذه الصناعة أغفلت كتب التّراجم أسماء الشيّوخ الذين درس عليهم ضياء الدّين.
ورجّح باحثان معاصران، هما نوري القيسي وهلال ناجي، أنّه درس على أخيه مجد الدّين، وعلى خطيب الموصل أبي الفضل الطّوسيّ، ويحيى الثّقفيّ. وتشير مؤلّفات ضياء الدّين إلى أنّه حرص على التّنوع والشّمول، فلم تكن قراءته مقصورة على علوم اللّغة وحدها، بل شملت كتب النّقد والحديث والفقه والشّعر والأدب والتّفسير، إضافة إلى القرآن الكريم. وهو، تبعاً لذلك، أمين لمفهوم ثقافة الكاتب الموسوعيّة، راغب في أن يُجسّد هذا المفهوم ليتمكّن من الخوض في الفنون الأدبيّة كلّها، لأنّ الكاتب في رأيه لا يُقْدم على الكتابة إذا لم تكتمل لديه المعارف جميعها. ولا شكّ في أنَّه بالغ كثيراً في ثقافة الكاتب، ولكنّه حرص، في الحالات كلّها، على أن يستمدّ ثقافته من مصادر متنوّعة، تكاد تشمل ما كان سائداً في عصره.‏
إنّ مولفّاته تضمّ اقتباسات من أبرز الكتب البلاغيّة والنّقديّة في عصره، كالموازنة للآمديّ، والوساطة للقاضي الجرجانيّ، ونقد الشّعر لقدامة بن جعفر، وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، وسرّ الفصاحة لابن سنان الخفاجيّ، والبيان والتّبيين للجاحظ، وغيرها. وهذه الاقتباسات تدلّ دلالة واضحة على أنّه أنعم النّظر في الكتب التي قرأها، فهو يناقشها مناقشة العالم بأسرارها، العارف بمواطن الجودة والرّداءة فيها، القادر على استحضارها وتوظيفها والمقارنة بينها. كما تدلّ الاقتباسات نفسها على أنّ هناك كتباً أثّرت فيه، كسّر الفصاحة لابن سنان، والموازنة للآمديّ، ودواوين أبي تمّام والبحتريّ والمتنبيّ.‏
خصائص منهجه في التأليف
 تأسس منهجه على التمهيد لكتبه بمقدمات وافية يشرح فيها منهجه ويبين غرضه ومقصده، ويدون فيها مصادره التي اعتمدها في تأليف الكتاب ويذكر أسماء من سبقوه في التأليف في الموضوع ذاته، ويوجه إليها نقداً يكشف بعض سلبياتها وغالباً ما يكون النقد موجهاً إلى منهج الكتاب.‏
- كان مجد الدين مدركاً أهداف كتبه والأغراض التي يتوخاها منها، فهيأ لها المنهج الذي يفي بتلك الأهداف، وتحقق تلك الأغراض، لأن اختلاف الأغراض - منهجه واضح المعالم، قريب المقصد، سهل المأخذ، يصل فيه القارئ أو الباحث إلى مبتغاه دون أدنى جهد، لأن صاحبه توخى فيه تيسير الفائدة منه، وجعلها تعم فتنتشر، فتشمل العوام والخواص، ولا تختص بفئة معينة من الناس، وذلك من خلال تيسير سبل البحث في مؤلفاته، وتخير مادتها، وطريقة عرضها، الأمر الذي يكسب كتبه طابعاً جماهيرياً - العناية بذكر مصادر كتبه وحسن استخدامها وتوظيفها في البحث. وهي مسألة لا ينفرد بها ابن الأثير، وإنما تشكل إحدى مرتكزات المنهج التأليفي عند العرب ابتداء من القرن الرابع الهجري.‏
- انتفاء ظاهرة الاستطراد فيه، هذه الظاهرة التي نراها بارزة في منهج التأليف عند العرب وخاصة الجاحظ وكان لهم في ذلك وجهة نظر، فابن الأثير ملتزم بالموضوع الذي يعالجه لا يتجاوزه، متقيد بالفكرة التي يفرضها لا يتعداها حتى يعطيها حقها، ويوفر لها كل مستلزماتها، ويسوقها بطريقة تكشف عن مقدرة بارعة على تناول الموضوعات وعرضها وتحليلها وقد قاده هذا الأمر إلى عدم تكرار المادة في الكتاب الواحد، بل نراه حريصاً على ذلك في رسم منهج كتابه متيقظاً له، متحاشياً إياه في كثير من مواضع الكتاب ففي مقدمة كتابه: جامع الأصول يقول: لما أردنا أن نذكر شرح لفظ الحديث ومعناه، كان الأولى بنا أن نذكره عقيب كل حديث، فإنه أقرب متناولاً وأسهل مأخذاً، لكنا رأينا أن ذلك يتكرر تكراراً زائداً... وإن نحن أوردناه آخر كل فصل أو باب جاء من التكرار ما يقارب الأول...".‏
- فاهتم بذكر مصادر مواد كتبه العلمية، والتفت إلى تثبيت الأسانيد التي تحملها، واحتاط ممن لم يوثق علمه، ونبه على الآراء التي لم يستطع إسنادها، ولم يطمئن إلى صحتها وأدى الأمانة العلمية حق أدائها فيما نقله من آراء، وما أثبته من معارف وعلوم متسلحاً بقول سفيان الثوري:الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح، فبأي شيء يقاتل؟". وسعى لتوفير أعلى درجات التوثيق لكتبه على ما تتطلبه رواية الحديث من ضوابط دقيقة.‏
- يتخير لكتبه منهجاً سديداً يستند على فكرة الترتيب المعجمي، أي ترتيب مادة الكتاب وعرضها على أساس ترتيب حروف الهجاء (ا ب ت ث) طلباً لتسهيل كلفة الطالب.
- تشير مؤلّفات ضياء الدّين إلى اهتمامه بثلاثة أنواع من التأليف: أوّلها الاختيارات، وثانيها البلاغة والنّقد، وثالثها صناعة الإنشاء. وهذا ثبت بمؤلّفاته في الأنواع الثّلاثة .
محطات :
-
كان منهج ابن الأثير في التأليف مؤسساً على ثوابت علمية واضحة، تمثلت في الترتيب الواضح، والمأخذ السهل، ووحدة الموضوع، وانتفاء التكرار، والتوثيق العلمي، فظهر لنا مؤلفاً متميزاً متمكناً، توافرت لكتبه مقومات المنهج العلمي الحديث، مما يجعله يشغل منزلة رفيعة بين رجالنا العظماء وعلمائنا النوابغ، وكتَّابنا الأفذاذ، جاء بجديد في مجال التأليف والتصنيف، وأسهم في تطور منهج التأليف والبحث عند العرب.‏ - خلَّف مجد الدين آثاراً طيبة تنم عن ثقافته المتشعبة، وتشير إلى علمه الوفير ومعرفته الغزيرة خلَّدت اسمه في مكتبتنا العربية وشغلت مكاناً متصدراً فيها، تفرّغ لها –كما أشرنا سابقاً- في فترة مرضه، فقام بتصنيفها تعينه جماعة في الاختيار والكتابة أملاها إملاء، لأن مرضه كفّ يديه عن الكتابة.
 أكثر مؤلّفات ضياء الدّين بن الأثير أهميّة كتابالمثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ) ألفّه في الموصل في السنوات العشرين الأخيرة من حياته، ولم يكتف بإذاعته في النّاس، بل استمر يقلّب النّظر فيه تعديلاً وإضافة. وهو كتاب ضخم، يضمّ مقدّمة ومقالتين.
ما قاله النقاد

إن منهج التأليف عند ابن الأثير، وينسجم مع طبيعة المادة العلمية المعروضة في معظم كتبه. الأمر الذي يبرز مجد الدين هذا مؤلفاً متميزاً، وعالماً بارعاً متفنناً، يتميز بعقلية معجمية منظمة هيأته لأن يشغل مركزاً مرموقاً بين صناع المعجم العربي.‏
تمثلت فيه ثقافة الأديب الموسوعية، وتوافرت فيها عناصرها القائمة على مبدأ الأخذ من كل علم بطرف، وهو مفهوم ينسحب على أقرانه الأدباء ونظائره العلماء في عصور الأدب العربي القديم بعامة في الأغلب الأعم.‏
قال ابن الشعار كان كاتب الإنشاء لدولة صاحب الموصل نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود ، وكان حاسبا ، كاتبا ، ذكيا ، إلى أن قال : ومن تصانيفه كتاب "الفروق في الأبنية" وكتاب "الأذواء والذوات" وكتاب "المختار في مناقب الأخيار" و"شرح غريب الطوال. و قالياقوت ): كان عالماً فاضلاً وسيداً قد جمع بين علم العربية والقرآن والنحو واللغة والحديث وقالابن خلكان): كان فقيهاً محدثاً أديباً نحوياً عالماً بصنعة الحساب والإنشاء... كان ورعاً، عاقلاً مهيباً، ذا برٍ وإحسان .(
كما ( قال أبو الفداء): كان مجد الدين عالماً بالفقه والأصول والنحو والحديث واللغة وله تصانيف مشهورة وكان كاتباً مفلقاً.
وقالابن كثير): سمع الحديث الكثير وقرأ القرآن، وأتقن علومه، وحررها وقد جمع في سائر العلوم كتباً مفيدة، وقالاليافعي): له المصنفات البديعة والرسائل الوسيعة. وفضلاً عن ذلك، فإن مجد الدين قال الشعر، ولكنه كان مقلاً فيه.
قال فيهابن المستوفي ): أشهر العلماء ذكراً، وأكبر النبلاء قدراً، وأوحد الأفاضل المشار إليهم، وفرد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم، وقال فيه ابن خلكان:
وقال فيهأبو شامة ): كاتب مصنّف وصدر كبير. وقال( السيوطي): من مشاهير العلماء، وأكبر النبلاء، وأوحد الفضلاء.
مؤلّفاته:‏
- الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف
-
الباهر في الفروق في النحو
-
البديع في النحو
-
تجريد أسماء الصحابة
-
تهذيب فصول ابن الدهان - جامع الأصول في أحاديث الرسول.‏
-
ديوان رسائل
-
رسائل في الحساب
-
الشافي في شرح مسند الشافعي
-
شرح غريب الطوال
-
الفروق في الأبنية والنحو
-
كتاب في صنعة الكتابة
-
المختار في مناقب الأخيار
-
المرصع في الآباء والأمهات، والأبناء والبنات والأذواء والذوات
-
المصطفى والمختار في الأدعية والأذكار
-
منال الطالب في شرح طوال الغرائب
-
النهاية في غريب الحديث والأثر
-
الأدعية المئة المختارة
-
الاستدراك على المآخذ الكنديّة‏
-
البرهان في علم البيان‏
-
تحفة العجائب وطرفة الغرائب، مختارات من الشّعر والنّثر- جزءان. (لم تثبت صحّة نسبة الكتاب إلى ابن الأثير).
-
الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور
-
ديوان التّرسُّل‏
-
رسائل ابن الأثير‏
-
رسائل ضياء الدّين بن الأثير‏
-
رسالة الأزهار‏
-
رسالة في أوصاف مصر‏
-
رسالة في الضّاد والظّاء‏
-
رياض الأزهار‏
-
السّرقات الشّعريّة‏
-
عمود المعاني‏
-
كفاية الطّالب في نقد كلام الشاعر والكاتب‏
-
مؤنس الوحدة، مختارات شعريّة.‏
-
المثل السّائر في أدب الكاتب والشّاعر‏
-
المجرَّد من الأخبار النّبويّة
-
المجرَّد من أمثال الميدانيّ
-
المختارت من ديوان التّرسُّل
-
المختار من شعر أبي تمّام والبحتريّ وديك الجنّ والمتنبيّ
-
المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء‏
-
المفتاح المنشّا في حديقة الإنشا‏
-
مناظرة بين الخريف والرّبيع‏
-
الوشي المرقوم في حلّ المنظوم‏
-
المثل السّائر في أدب الكاتب والشّاعر( من أهم مؤلفاته)
وفاته :
توفي في سنة 606 هـ بالموصل




إعجاز القرآن الكريم للباقلاني
1.   أبو بكر الباقلاني ومفهومه للإعجاز القرآن
يمثّل الباقلاني[1]بمفهومه للإعجاز القرآني، وبمؤلّفه (إعجاز القرآن) - وجهة نظر جماعة المسلمينويعدّ كتابه هذا أول كتاب يصنفه عالم من علماء السلف في الرد على مزاعم الملحدين والمخالفين من الرافضة والمعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم، لذلك بلغ بهذا الكتاب مكانة مرموقة، وشهرة ذائعة، لم يصل إليها أحد غيره.
وقبل أن نتحدث عن مفهوم الباقلاني للإعجاز القرآني.. نوَدُّ أولا أن نتعرف عليه.
اسمهمحمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم.. أبو بكر القاضي الباقلاّني البصري المتكلم الفقيه.الباقلاّني[2]:. نسبة إلى البَاقِليّ وبيعه.
والبصري.. لأنه نشأ في البصرة، وقضى فيها فترة شبابه، قبل أن يهاجر منها إلى بغداد ليقيم فيها بقية حياته.
والمتكلّم.. لأنه اتجه إلى علم الكلام نظرا لكثرة الملحدين في العراق في القرن الرابع الهجري، وظهور مذهب أبي الحسن الأشعري[3]، ودفاعه عن آرائه، وجداله الشديد للمعتزلة وأنصارهم يقولون إنه كان أعرف الناس بعلم الكلام، وأحسنهم خاطراً، وأجودهم لسانا، وأوضحهم بيانا، وأصحهم عبارة.. وله في كتب الكلام آراء كثيرة يعتد بها.
والفقيه.. لأنه كان من كبار فقهاء المذهب المالكي..
ويعد الباقلاني فيلسوف المذهب الأشعري، الذي بلور آراءه، ونفّذ تعاليمه, يقول ابن تيمية: "إنه أفضل المتكلمين المنتسبين إلى أبي الحسن الأشعري وليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده[4]", "عمل على نصرة المذهب، وصار إماما له بعد أن تناوله بالتهذيب، وضع لمسائل العلم المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة، وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء، وأن العرض لا يبقى زمانين، وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الدينية في وجوب اعتقادها.. لتوقف تلك الأدلة - في رأيه – عليها؛ ولأن بطلان الدليل يؤذن - يما يقول- ببطلان المدلول[5]". وكان –كما يقول الشهرستاني: "يثبت الصفات معاني قائمة به تعالى أحوالا[6]".
ذكاؤه وقوة لَسْنُه:
   تتحدث المصادر كثيرا عن ذكاء الباقلاّني، وقوة لسنة وحجته، وسرعة بديهته، وإقحامه للخصوم.. أرسله عضد الدولة في سفارة رسمية إلى ملك الروم عام 371هـ فأدخلوه وهو في عاصمة الروم على بعض القسس, فقال الباقلاني للبابا:
كيف أنت وكيف الأهل والأولاد؟ فتعجب البابا وقال له: ذكر من أرسلك في كتاب الرسالة، أنك لسان الأمة، ومتقدم على علماء الملة.. أما علمت أن المطارنة والرهبان منزهون عن الأهل والأولاد؟ فأجابه الباقلاني: رأيناكم لا تنزهون الله سبحانه عن الأهل والأولاد.. فهل المطارنة عندكم أقدس وأجلّ وأعلى من الله سبحانه؟
فأراد كبير الروم أن يخزي القاضي الباقلاني، فقال له: أخبرني عن قصة عائشة زوج نبيّكم وما قيل فيها؟ فأجابههما اثنتان قيل فيهما ما قيل، زوج نبينا، ومريم أم المسيح، فأما زوج نبينا فلم تلد.. وأما مريم فجاءت بولد تحمله على كتفها، وقد برأهما الله مما رميتا به.. فانقطع الرومي ولم يحر جوابا[7]!!.
ولقد ذكرت المصادر أن الباقلاني كان في علمه أوحد زمانه، وانتهت إليه الرياسة في مذهبه، وكان موصوفا بجودة الاستنباط وسرعة الجواب, كثير التطويل في المناظرة.. أكسبته عقليته الفذة منزلة رفيعة، ومكانة مرموقة على المستوى العلمي والرسميّ.
"
جرى يوما بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة، وأكثر القاضي أبو بكر فيها الكلام، ووسع العبارة، وزاد في الإسهاب، ثم التفت إلى الحاضرين وقال: "اشهدوا علي أنه إن أعاد ما قلت لا غير.. لم أطالبه بالجواب .." فقال الهاروني: اشهدوا عليّ أنه إن أعاد كلام نفسه سلمت له ما قال"[8]
2.   شيوخه ومعاصروه:
تلمذ الباقلاني على مجموعة من العلماء كان لهم أكبر الأثر في تغذية عقليته، وصقل موهبته، وتنوع اهتماماته العلمية, منهم:
ابن مجاهد الطائي, وعنه أخذ علم الكلام والفقه المالكي وأصوله.
والشيخ الصالح أبو الحسن الباهلي الذي أخذ عنه علم الأشعري.
ومحمد الأبهري المالكي، والحسين النيسابوري، وأبو بكر بن مالك، وأبو محمد بن ماسي، والقطيعي وغيرهم من أعلام القرن الرابع الهجري في الدين والشريعة[9].
كما عاصر الباقلاني مجموعة غير قليلة من العلماء النابهين الذين كان لهم شأنهم في تيار الثقافة الإسلامية, من هؤلاء:إبراهيم بن محمد الإسفراييني (توفي سنة 418ﻫ), وأبو بكر محمد بن الحسن فورك "توفي سنة 406ﻫ" وغيرهما من الأعلام الذين شهد لهم بالمقدرة العلمية. وقد وصفهم الصاحب ابن عباد بقوله: "ابن الباقلاني بحر مغرق، وابن فورك صل مطرق[10] والإسفراييني نار تحرق."
تلاميذه:
أما تلاميذه فهم كثيرون.. يكفي أن نعلم أن الرجل كان يبذل علمه في جامع المنصور ببغداد حيث كانت له حلقة كبيرة، يتحلق فيها مقدرو علمه وطالبو فضله. بيد أن أشهر تلاميذه ما ذكرتهم المصادر القديمة وهم أبو عبد الله الأزدي، وأبو طاهر البغدادي اللذان هاجرا إلى المغرب العربي – القيروان – ونشرا علمه هناك.
آثاره:
أنتجت عقلية الباقلاني مجموعة كثيرة من الكتب الدينية ذات الصبغة الكلامية، والتي تتناول الرد على المخالفين والملحدين والمتفلسفينيقولون أنه صنف سبعين ألف ورقة في الدفاع عن الدين.. كل ليلة خمسة وثلاثين ورقة, كل ذلك إظهاراً لعلم الرجل، وإبرازاً لمكانته الدينية والعلمية, بيد أن أشهر كتبه على الإطلاق هو كتابه (إعجاز القرآن) الذي حدّد فيه مفهومه للإعجاز القرآني وقد طبع هذا الكتاب مراراً في القاهرة.
ويروى أن له كتابا في (الملل والنحل) وكتابا آخر ذكره صاحب كشف الظنون واسمه (هداية المسترشدين في الكلام) كما ذكرت المصادر له (كتاب الانتصار) و(كتاب التمهيد في الرد على الملحدة والمعطلة والرافضة والخوارج) وقد نشر الكتاب الأخير الأستاذان محمود محمد الخضري ومحمد عبد الهادي أبو ريدة.
وفاته:
مات القاضي أبو بكر محمد بن الطيب في يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة (403ﻫ) - رحمه الله -.
مفهوم الباقلاني للإعجاز القرآني
وهب الباقلاني حياته وعلمه للدفاع عن عقيدة السلف، والرد على المخالفين والملحدين من الجهمية والمعتزلة والخوارج وغيرهموتعدّ آراء الباقلاني في كتابه (عجاز القرآن) الترجمة العلمية لما جال في خاطره، ولما اعتمل في ذهنه من أمور، حيث وجد أن أنسب ما يمكن أن يقال، هو التأليف حول إعجاز القرآن، وما يربط بهذا الإعجاز من مفاهيم ومضامين، فجاء كتابه من أفضل الكتب العلمية التي تناولت هذا الموضوع.. معبراً عن آراء السلف من علماء القرن الرابع.
لقد اعتبر الرجل تأليفه لهذا الكتاب واجباً دينيا في المرتبة الأولى.. إلى جانب كونه واجبا علميا، لذلك لم يدخر وسعاً، وهو بصدد تحليلاته..من أن يعمق البحث، ويكثر من المناقشة، ويتطرق إلى الكثير من المسائل التي تهمه وتهم الناس, وفي الوقت نفسه ترد على مظان الظانين، وتبطل أقوال الطاعنين.

حدد الباقلاني في فاتحة كتابه.. منهجه في البحث، وغايته منه، بأنه يرمي من وراء ذلك إلى عدة أمور..

-
كشف ما كان لأصل الدين قواما.. ولقاعدة التوحيد عماداً ونظاماً.
-
وإثبات أن ما جاء به النبي صدقا وبرهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة، للرد على ما طعن فيه الطاعنون والملحدون حول أصول الدين.
-
ثم نفي كل ما تقوّله المتقولون عن معادلة القرآن وموازنته بالشعر.. اعتمادا على ما توارثوه من أقوال ملحدة قريش وغيرهم.

فإذا ما انتهى من تحديد منهجه وعناصر بحثه، انتقل إلى تفصيل دقائقها حتى يمكنه إحكام القول في هذا الشأن. لذلك قسّم الباقلاني بحثه في إعجاز القرآن.. إلى أربع مراحل أساسية، كل مرحلة توصل إلى ما بعدها وترتبط بها، حتى يتسم عمله بطابع الوضوح، والتكامل الموضوعي والعلمي في آن واحد.
1-
مرحلة التمهيد.
2- 
مرحلة التفنيد.
3- 
مرحلة التحديد.
4-
مرحلة التأييد.
في المرحلة الأولىجعل هدفه تنشيط الهمم وتحفيزها على تدارك كتاب الله ثم الدفاع عنه وردّ كل ما أذيع حوله من أباطيل وأكاذيب، ثم التعريض بما ألف حول إعجاز القرآن، وخالف ما عليه أهل السلف عامة.
لقد رأيناه يصدِّر كتابه بمقدمة تمهيدية، يحث فيها المسلمين على تدارك كتاب ربهم، وفهم مضمونه ومشموله للوقوف في وجه الملحدين والمضللين (الذين خاضوا في أصول الدين) وشكّكوا ضعاف الإيمان واليقين. واتخذ سبيلا لذلك إبراز أهمية القرآن الكريم من حيث هو كتاب الله، ومن حيث هو حجة النبوة، ودليل على صدق الدعوة، وصدق النبوة.
وبدأ هذا الأمر بتحفيز أهل الدين على النهوض بواجبهم المقدس نحو الله والناس.. قال: "ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه، وأولى ما يلزم بحثه، ما كان لأصل دينهم قواماً، ولقاعدة توحيدهم عماداً ونظاماً، وعلى صدق نبيهم –صلى الله عليه وسلم- برهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة، ولا سيما أن الجهل ممدود الرواق، شديد النفاق، مستول على الآفاق، والعلم إلى عفاء ودروس، وعلى خفاء وطموس، وأهله في جفوة الزمن البهيم، يقاسون من عبوسه لقاء الأسد الشتيم، حتى صار ما يكابدونه قاطعا عن الواجب من سلوك مناهجه، والأخذ في سبله، فإن الناس بين رجلين: ذاهب عن الحق ذاهل عن الرشد، وآخر مصدود عن نصرته، مكدود في صنعته، فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين، وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين"[11].
ويتناول الباقلاني بعد ذلك ما أذاعه الملحدون والمغرضون حول القرآن من أباطيل وافتراءات سبق أن وردت على ألسنة مشركي قريش، منذ أن أنزل الله القرآن على قلب نبيّه.. فنراه يسفّه آراء هؤلاء الملحدين، ويصفهم بالجهل.. والبعد عن الرشد ذلك أن مشركي مكة من قريش قد تابوا وأنابوا، فأسلموا ورجعوا عن غيهم، أما هؤلاء الملحدون فهم على جهلهم ونزقهم وتعصبهم الأعمى الذي لا يستند إلى دليل.
والباقلاني - وهو بصدد مواجهة هؤلاء الملحدين والمغرضين- يلقى اللوم على علماء العصر، خاصة مَنْ اشتغل منهم باللغة وعلم الكلام، ولم يلتفت إلى توضيح وجوه الإعجاز القرآني، والكشف عن أسرارها، ويحملهم تبعة من خلط في هذه المسائل، متأثرين ببعض مذاهب البراهمة, يقول: "وقد قصّر بعضهم في هذه المسألة - أي مسألة إعجاز القرآن -، حتى أدى ذلك إلى تحوّل قوم منهم إلى مذاهب البراهمة فيها، ورأوا أن عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة، يوجب ألا يستنصر فيها ولا وجه لها، حين رأوهم قد برعوا في لطيف ما أبدعوا وانتهوا إلى الغاية فيما أحدثوا ووضعوا، ثم رأوا ما صنفوه في هذا المعنى غير كامل في بابه، ولا مستوفي في وجهه قد أخل بتهذيب طـرقه، وأهمل ترتيب بيـانه"[12].
بيد أنه يلتمس لبعضهم الأعذار، لأن البحث فيها - أي في مسائل الإعجاز ووجوهه- لم يكن يتيسّر إلا لمن كدّ فكره وأعمل عقله.. وأعدّ لهذه الدراسة نفسه..
"
وقد يعذر بعضهم في تَفْريط يقع منه، وذهاب عنه، لأن هذا الباب مما لا يمكن إحكامه إلاّ بعد التقدم في أمور شريفة المحل، عظيمة المقدار، دقيقة المسلك، لطيفة المأخذ.."[13]
وفي هذه المرحلة التمهيدية، وقبل أن يبدأ في تنفيذ مخططه، وتوضيح المسائل التي ذكرها في مقدمته، يجد الباقلاني بدافع من غيرته على آراء السلف، وإيمانه الراسخ بها، أن يعرض بكتب الفرق الكلامية الأخرى، خاصة المعتزلة، وقد وجد بغيته في كتاب الجاحظ المعتزلي (نظم القرآن) فوصفه بالقصور والسطحية، وعدم الموضوعية، وأنه لم يأت فيه بجديد، بل هو صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابا[14]، لم يزد فيه على ما قاله المتكـلمون قبله[15] ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى" يقصد الكشف عن وجوه الإعجاز القرآني وسرها.
وواضح.. أن الباقلاني – السلفي - متأثر في هذا القول بعقيدته، وبما قاله أصحابه الأشاعرة. وهنا يقف الباقلاني، ليذكر "جملة من القول جامعة تسقط الشبهات، وتزيل الشكوك التي تعرض للجهال، وتنتهي إلى ما يخطر لهم، ويعرض لأفهامهم من الطعن في وجه المعجزة"[16]
فتناول مجموعة من القضايا العلمية الهامة التي تتصل بموضوع الإعجاز منها: "ما يجب وصفه من القول في تنزيل متصرفات الخطاب، وترتيب وجوه الكلام، وما تختلف فيه طرق البلاغة، وتتفاوت من جهته سبل البراعة، وما يشتبه له ظاهر الفصاحة، ويختلف فيه المختلفون من أهل صناعة العربية، والمعرفة بلسان العرب في أصل الوضع، ثم ما اختلفت به مذاهب مستعمليه في فنون ما ينقسم إليه الكلام من شعر ورسائل وخطب، وغير ذلك من مجاري الخطاب، وإن كانت هذه الوجوه الثلاثة أصول ما يبين فيه التفاصح وتقصد فيه البلاغة لأن هذه أمور يتعمل لها في الأغلب ولا يتجوز فيها. ثم من بعد هذا الكلام الدائر في محاوراتهم، والتفاوت فيه أكثر لأن التعمل فيه أقل، إلا من غزارة طبع، أو فطانة تصنع وتكلف.. ونشير إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق، ليعرف عظم محل القرآن، وليعلم ارتفاعه عن مواقع هذه الوجوه، وتجاوزه الحد الذي يصح أو يجوز أن يوازن بينه وبينها، أو يشتبه ذلك على متأمل"[17].
ثم يستطرد الباقلاني كلامه ذاكراً، أنه يعرف تماما أن هذه المسائل لا يستوعبها إلا مَنْ كدَّ فكره، وأعمل عقله، وكان هو أصلا من أهل صناعة العربية، قد وقف على جمل من محاسن الكلام ومتصرفاته ومذاهبه، وعرف جملة من طرق المتكلمين، ونظر في شيء من أصول الدين، وإنما ضمّن الله عز وجل فيه البيان لمثل ما وصفناه، فقال: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُون}[18] وقال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[19].
إذن، فقد خصّ الباقلاني كتابه بالصفوة المختارة من الباحثين والمتأدبين والعلماء والمثقفين وليس للعامة أو الجهال، وهذا هو محور بحث الرجل، إنه يخاطب فئة معينة من الواعين.
فإذا ما انتهى الباقلاني من هذه المرحلة التمهيدية، وبين هدفه ومبتغاه، انتقل إلى المرحلة التالية.. مرحلة التفنيد.. فقسّم بحثه إلى فصول متوالية، كل فصل يرتبط بما بعده، ويوصل إليه أيضا.. وفي الوقت نفسه يتصل بما قبله. تناول في كل فصل منها ناحية من النواحي التي وعد ببحثها, تمهيداً لإبراز وجوه الإعجاز القرآني.
فافتتح هذه الفصول بفصل تحدث فيه عن نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم-, وأنّ معجزتها القرآن, فالرسول وإن كان قد أيّد بعد ذلك بمعجزات جمّة، لا يمكن إنكارها.. إلاّ أنّ معجزة القرآن "كانت معجزة عامة، عمّت الثقلين[20]، وبقيت بقاء العصرين[21]، ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد، وإن كان قد يعلم بعجز أهل العصر الأول عن الإتيان بمثله وجه دلالته".
ويذكر الباقلاني.. أنه ما خصّص هذا الفصل ولا ألّفه إلاّ للرد على المتكلمين، وتفنيد مزاعمهم.. "لما حكى عن بعضهم أنه زعم أنه وإن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول، فليس أهل هذا العصر الأول في الدلالة لأنهم خصّوا بالتحدي دون غيرهم".
ويبيِّنُ الباقلاني خطأ هذا الزعم، ويستدل على ذلك بأدلة من القرآن نفسه وبآيات بينات تثبت أن الله -سبحانه وتعالى- حين ابتعث نبيه، جعل معجزته القرآن، وبنى أمر نبوته عليه.
من ذلك قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[22] فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة، ولا تكون حجة إن لم تكن معجزة..
ويرى الباقلاني أنه ما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة[23]، إلا وتدلّ على هذه المعجزة، بل إنّ كثيرا من السور إذا تؤمل - فهو من أوله إلى آخره- مبني على لزوم حجة القرآن والتنبيه على وجه معجزته. ويستشهد على ذلك بسورة المؤمن[24]، ويحلّلها تحليلا دقيقا يبرز فيها أسرار الإعجاز.
ولا يترك الباقلاني إثبات أنّ نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - مبنية على دلالة معجزة القرآن دون أن يبيِّن ويحدِّد وجه هذه الدلالة.. لذلك أعقب هذا الفصل بفصل في الدلالة على أن القرآن معجزة[25] في ذاته. وقد اعتمد الباقلاني في تبيين وجه الدلالة على أصلين اثنين:
أولهماإثبات أن القرآن - الذي هو متلو محفوظ مرسوم في المصاحف - هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم, وأنه هو الذي تلاه على مَنْ في عصره ثلاثا وعشرين سنة.
ودليل الباقلاني على ذلك.. هو النقل المتواتر، الذي أنه قام به في المواقف، وكتب به إلى البلاد، وتحمّله عنه إليها من تابعه، وأورده على غيره من لم يتابعه، حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه على أحد، ولا يحتمل أنه قد خرج من أتي بقرآن يتلوه، ويأخذه على غيره, ويأخذ غيره على الناس، حتى انتشر ذلك في أرض العرب كلها, وتعدّى إلى الملوك المصاقبة لهم، كملك الروم والعجم والقبط والحبش وغيرهم من ملوك الأرض.
والأصل الثاني.. هو التحدي.. الذي واجه العرب به؛ ذلك أنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله, وقرعهم على ترك الإتيان به طول السنين التي وصفناها فلم يأتوا بذلك.
ويستدل الباقلاني على صحة هذا الأصل بما تضمنه القرآن من آيات التحدي, من مثل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[26], جعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلا على أنه منه، ودليلا على وحدانيته.
ولقد كانت قضية التحدي مثار اهتمام الباقلاني.. خاصة وهو بصدد الدفاع عن القرآن، فنراه يشبعها تحليلا وتدليلا، إثباتا لصدق النبوة، وتدعيما لوجه الدلالة، وردّا على الملحدين والمتكلمين عامة، والمعتزلة خاصة، الذين أثاروا قضية (الصرفة).
فإذا ما أثبت الباقلاني معجزة النبوة, وإذا ما أصّل الأصول التي اعتمدها في بيان وجه الدلالة على أن القرآن معجز في ذاته.. انتقل الباقلاني إلى صلب موضوعه وهو تحديد وجوه إعجاز القرآن.. وهنا تبدأ المرحلة الثالثة.. مرحلة التحديد، بعد أن اجتاز مرحلتي التمهيد، والتفنيد.

يقرّر الباقلاني في الفصل الثالث من كتابه (إعجاز القرآن) أن هذا الإعجاز إنما يردّ إلى ثلاثة أوجه:
1-
تضمنه الإخبار عن الغيوب.
2- 
وما فيه من القصص الديني وسير الأنبياء مما روتْهُ الكتب السماوية مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب.
3-
ثم بلاغته.
فأما الوجه الأول: فقد استدل عليه بما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[27] ففعل ذلك.. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله من إظهار دينه ليثقوا بالنصر، ويستيقنوا بالنجح، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفعل كذلك في أيامه حتى وقف أصحاب جيوشه عليه...
وأما الوجه الثاني: فإنه معلوم من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان أميّاً لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ، وكذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتي بجملة ما وقع وحدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام إلى حين مبعثه.
وأما الوجه الثالث.. فإنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه..
ولما كان الباقلاني من علماء اللغة والأدب والبلاغة، فقد ركّز شرحه على هذا الوجه الأخير، فتحدث عن جمال نظم القرآن حديثا مسهبا.. يتضح منه مفهومه ونظريته في إعجاز القرآن.
إنه لم يرض أن يترك هذا الوجه دون أن يحدّد قسماته ويبيّن معالمه، ويوضّح سماته، وما عناه بالنظم، من هنا وجدناه يحلّل هذا الوجه البلاغي تحليلا دقيقا، ينمّ عن سعة إطلاع ورسوخ في العلم، ودقة في الفهم معاً..
لقد أرجع الباقلاني جمال النظم القرآني إلى مجموعة وجوه تتسم بالدقة والعمق، وتدل على ترابط جزئيات الموضوع في ذهنه.. منها ما يرجع إلى الجملة، ومنها ما يرجع إلى الفصاحة، ومنها ما يرجع إلى النظم، واستوائه وحسن رصفه، ومنها ما يرجع إلى غزارة المعاني، ومنها ما يرجع إلى تأثير الكلمة في الأسماع..
وواضح من تقسيماته وتفريعاته أنه متأثر في الشطر الأول من نظريته بفكرة الجاحظ، التي ذهب فيها إلى أن مرجع الإعجاز في القرآن إلى نظمه وأسلوبه العجيب المباين لأساليب العرب في الشعر والنثر وما يُطْوى فيه من سجع[28].
وأما في الشطر الثاني فقد تأثر الباقلاني بفكرة الرُّمَّاني، التي ذهب فيها إلى أن القرآن يرتفع إلى أعلى طبقة من طبقات البلاغة[29].
وعلى الرغم من أن الباقلاني قد اشبع هذه الوجوه العشر البلاغية شرحا وتحليلا وتفسيرا وتمثيلا, وألحق بكل منها ما يؤيد وجهة نظره، واستشهد بالكثير من الشواهد الشعرية والنثرية.. والآيات القرآنية.. إلاّ أنه وجد أنّ هذا الشرح غير كاف، وهذا التعليل غير شاف، فنراه يلحق بهذا الفصل الثالث فصلا رابعا، لا يتناول فيه موضوعا جديداً، بل إنه يعاود شرح ما سبق أن ذكره وبيّنه من وجوه، وواضح أنه قد فاته بعض المسائل لم يستطع أن يدرجها أثناء الشرح فألحقها به. إنه يتناول وجهاً وجهاً من الوجوه الثلاثة التي حددها للإعجاز القرآني ليعاود الكلام عليها ولكن بتركيز شديد وبشواهد جديدة.. ثم يختم هذا الفصل التفسيري المركّز بالكلام عن الإعجاز الواقع في النظم والتأليف والرصف.. ويجعل من حديثه هذا منطلقا لبدءالمرحلة الأخيرة وهي مرحلة التأييد والإثبات، وتقديم المبرهنات والمؤيدات.
لقد ذكر الباقلاني مجموعة من العناصر التي جعلت من نظم القرآن وجها من وجوه الإعجاز.. منها: "أنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم، ومباين لأساليب خطابهم, ومن ادّعى ذلك لم يكن له بد من أن يصحّح أنه ليس من قبيل الشعر ولا السجع ولا الكلام الموزن غير المقفى".
وهنا نجده يشير إلى نقطة الانطلاق التي سيبدأ منها الدفاع.. فيقول:
"
لأن قوماً من كفار قريش ادّعو أنه شعر، ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعرا، ومن أهل الملة من يقول: إنه كلام مسجع إلا أنه أفصح ممّا قد اعتادوه من أسجاعهم.. ومنهم من يدّعي أنه كلام موزون فلا يخرج بذلك عن أصناف ما يتعارفونه من الخطاب"[30]
إذن فخطة الباقلاني في المرحلة الثالثة أن ينفي الشعر عن القرآن, ثم ينفي السجع عن القرآن، ثم يذكر الصور البيانية، والعناصر الجمالية التي يمكن أن يقع بها إعجاز القرآن. وهذا ما فعله الباقلاني تدعيما لوجوه الإعجاز وتأييداً لما ذهب إليه من آراء أثناء ردِّه على المزاعم التي قيلت حول القرآن
وفي الحقيقة لم يكن نفي السجع عن القرآن من بنات أفكاره.. ولكنه ردَّد ما ذكره الرمّاني من أن فواصله تباين السجع مباينة تامة، إذ الفواصل تتبع المعنى، أمّا السجع فيتبعه المعنى، ومن أجل ذلك يتضح فيه التكلّف والثقل[31].
بعد أن انتهى الباقلاني من دفاعه عن القرآن، انتقل إلى موضوع آخر وهو: الطريق إلى معرفة الإعجاز.. أو كيفية الوقوف على إعجاز القرآنوهو كعادته حين يتصدى لموضوع ما يتساءل: هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما يتضمنه من البديع؟
وهنا نلاحظ أنه لا يقصد بالبديع المعنى الاصطلاحي المعروف, إنما يقصد ما جاء في القرآن من ألوان الجمال المعنوي التي تشملها علوم البلاغة.
وهو في هذا الفصل يحدّد الأبواب والفصول التي ذكرها أهل الصنعة، ومن صنّف في هذا المعنى - يقصد الإعجاز القرآني - ثم يبيّن ما عجزوا عن فهمه أو الوصول إلى كنهه، ليكون الكلام – على حد تعبيره - "وارداً على أمرٍ مبين، وباب مصور".
ثم يستعرض العناصر البلاغية التي تناولها القوم، وذكروها بوصفها النوافذ التي يمكن من خلالها أن يطلُّوا على آيات الإعجاز القرآني.. فنراه يتحدث كما تحدث البلاغيون السابقون من أمثال ابن المعتز وأبي هلال العسكري عن الاستعارة، والتشبيه، والإرداف, والمماثلة ويذكر المطابقة والجناس، ويذكر ضرباً يسميه (الموازنة), وهي مما زاده قدامة بن جعفر[32]في كتابه (جواهر الألفاظ) من حسن البلاغة، وقد سمّاها (اعتدال الوزن).
ويذكر الباقلاني أيضا (المساواة) على أنها ضرب من البديع، مقتديا بقدامة في هذا الصنيع، وتأثره في حديثه عقب ذلك عن(الإشارة) و(المبالغة) و(الغلو) و(الإيغال) و(التوشيح) و(صحة التقسيم) و(صحة التفسير) و(التقسيم) و(الترصيع).
ويظل ينقلنا الباقلاني من موضع بلاغي إلى آخر، ومن صورة شعرية فنية إلى أخرى، ملقيا الضوء على ما فيها من أبعاد وظلال فنية، حتى يأتي على كل العناصر البلاغية التي تناولها العلماء, وظنوا أنها السبيل إلى معرفة أسرار الإعجاز القرآني.
بيد أنه في آخر المطاف.. يضع أمام الأذهان سؤالا هاما..
هل لأبواب البديع فائدة في معرفة الإعجاز؟ ويجيب على هذا السؤال إجابة صريحة فيقول: "ليس كذلك عندنا.., لأن هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصل إليها بالتدريب والتصنع لها". ويمضي فيقول:
"
إنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادّعوه في الشعر ووضعوه فيه، وذلك أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة، ويخرج عن العرف، بل يمكن استدراكه بالتعليم والتدرب به والتصنع له.. أما شَأْوَ نظم القرآن فليس له مثال يُحْتَذى عليه ولا إمام يُقْتَدَى به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقاً."
فما السبيل إذن إلى معرفة إعجاز القرآن؟
هذا هو محور الفصل الثامن الذي خصصه الباقلاني لتحديد (كيفية الوقوف على إعجاز القرآن) يقول فيه: إنه لا يقف عليه إلاّ مَنْ عرف معرفة بيِّنة وجوه البلاغة العربية، وتكوَّنت له فيها ملكة يقيس بها الجودة والرداءة في الكلام بحيث يميِّز بين نمط شاعر وشاعر، ونمط كاتب وكاتب، وبحيث يعرف مراتب الكلام في الفصاحة, وهذا كما يميز أهل كل صناعة صنعتهم "ومتى تقدم الإنسان في هذه الصنعة لم تخف عليه هذه الوجوه، ولم ثشبيه عنده هذه الطرق، فهو يميز قدر كل متكلم بكلامه، وقدر كل كلام في نفسه، ويحكم فيه بما يستحق من الحكم، وإن كان المتكلم يجود في شيء دون شيء عرف ذلك منه، وإن كان يعم إحسانه عرف."[33]
وبهذا المفهوم نستطيع أن نعرف أن الباقلاني يرد المسألة إلى الذوق وحُسْن تدرّبه على تمييز أصناف الكلام.. ولقد دفعه هذا الفهم إلى أن يسوق طائفة من خطب الرسول - صلى الله عليه وسلم- ورسائله, ومن خطب الصحابة وغيرهم.. ليلمس القارئ فرق ما بين ذلك كله وبين القرآن.
ولا يقف عند حدود النثر.. بل ينطلق إلى آفاق الشعر، فيدرس معلقة امرئ القيس –إمام الشعراء -, ويبين ما فيها من تكلف وحشو، وخلل وتطويل، ولفظ غريب، وكيف تتفاوت أبياتها بين الجودة والرداء، والسلامة والغرابة، والسلامة والانحلال والاسترسال والتوحش والاستكراه.. "مع أنه قد أبدع في طرق الشعر أموراً اتبع فيها"[34]
بعد ذلك.. يعود بنا ليتحدث عن جمال نظم القرآن وحسن تأليفه ورصفه وكيف أنه وُزّع على كل آياته بقسطاس سواء منها القصص وغير القصص، بينما يتفاوت كلام البلغاء من الشعراء حتى في القصيدة الواحدة. ويتناول قصيدة بديعة للبحتري الذي اشتهر بجمال ديباجته وحلاوة أنغامه وعذوبة ألفاظه، وهي لاميته المشهورة:
أهْلاً بذلكمُ الخيالِ المقبل
فَعَلَ الذي نَهْواه أوْ لم يفعلِ ويشرِّح أبياتها تشريحا، مبيِّنا ما يجري فيها من ثِقل وتطويل وحشو وتكلف وألفاظ وحشية جافية، ومن تناقض وكزازة وتعسف ورداءة صوغ وسبك. ويهاجم الباقلاني كذلك ما يقال من بلاغة الجاحظ مبيِّناً أنه دائما يستعين بغيره، ويفزع إلى ما يوشِّح به كلامه من مثل نادر، وبيت سائر، وحكمة منقولة، وقصة مأثورة.. كل ذلك ليدل الباقلاني على أن بلاغة القرآن لا تسمو إليها أي بلاغة لشاعر أو كاتب وكأنه في كل ذلك يشرح ما ذكره الرمّاني في رسالته - التي تحدثنا عنها في المقال السابق - من أن للكلام ثلاث طبقات: عليا وهي طبقة القرآن، ووسطى ودُنيا، وهما طبقتا البلغاء على اختلاف بلاغتهم، وما ينظمونه أو يخطبون به أو يكتبونه. ونسمعه دائما يردِّدُ أنّ كلام البلغاء يتفاوت، بينما القرآن لا تتفاوت آياته، وإن العبارة لتُجْلَبُ منه إلى كلام البليغ.. فإذا هي تتلألأُ كأنها الدرّة الواسطة في العقد.. ويمضي الباقلاني قائلا: ".. إنّ القرآن ليس معجزاً لأهل العصر الأول الذي نزل فيهم فحسب، بل هو أيضا معجز لأهل كل العصور.." هذا هو مفهوم الباقلاني للإعجاز القرآني.. وواضح أنه لم يزد في كتابه عن شرحه - أو قل بعبارة أدق - عن محاولة شرحه لما قاله الجاحظ من جمال النظم القرآني، وما قاله الرَّماني من أنه في المرتبة الرفيعة من البلاغة والبيان، ومضى يردُّ تفسير هذه المرتبة بوجوه البديع التي عدَّها ابن المعتز وقدامة وأبو أحمد العسكري وغيرهم، كما ردّ تفسيرها بوجوه البلاغة التي ذكرها الرماني..
وبالطبع, فهذا لا يقلّل من شأن الباقلاني.. أو يبهرج علمه.. فيكفي أن نعلم أنّ الرجل أوّل من هاجم في قوة نظرية إعجاز القرآن عن طريق تصوير ما فيه من وجوه البديع، وأيضا وجوه البلاغة التي أحصاها الرماني.
ومن هنا تأتي أهمية الباقلاني، إذ أعدّ للبحث عن أسرار في نَظْم القرآن من شأنها حين تَوضح توضيحا دقيقاً أن تقف الناسَ على إعجازه.
عقبات في طريق الإسلام إن البلاد الإسلامية ترى أن الإسلام نظام متكامل.. وتراه أفضل للإنسانية من الشيوعيةوالرأسمالية.. ولكنها لا تفعل شيئا لإبلاغ رؤيتها وإيمانها للعالم.للردعلى هذا الاتهام فإن البلاد الإسلامية تتكوّن من حكومات وشعوب, وقد رزئت البلادالإسلامية بحكومات عسكرية ديكتاتورية, جاءت بانقلابات معظمها مدبر بواسطة الدولالاستعمارية، ومن الطبيعي أن هذه الحكومات لن تطبق الشريعة الإسلامية؛ لأنها عدوته،وستكون ضحيته لو طبق هذا النظام، وحتى الحكومات التي جرّبت الاستعمار باسم الإسلام تخلّت عنه بعد انتصارها, واتخذت الأنظمة البشرية والقوانين الوضعية لحكم شعوبها.وأما الشعوب ففيها العديد من الأفراد والهيئات تتمسك بعقيدتها وتريد تطبيق النظامالإسلامي. وقد لاقت في الكثير من البلاد وفي مختلف العهود من الاضطهاد والتعذيبوالتشريد والقتل ما عاقا عن تأدية رسالتها وتبليغ رؤيتها وإيمانها للشعوب الإسلاميةوللعالم, حتى أن أحد العلماء - وقد ألّف العديد من الكتب الإسلامية ومنها تفسيرللقرآن الكريم يقع في ثلاثين جزءا - اتهم بمحاولة قلب نظام الحكم, وحكم عليه بالإعدام,ونفِّذ فيه الحكم بعد أن لاقى هو وإخوانه ما يعجز عنه معظم الناس، وقد تم عقدكثير من المؤتمرات والاجتماعات في بلاد إسلامية متعددة وكلها يدعو إلى تطبيق الشريعةالإسلامية..












4.   كتاب مفتاح العلوم
السكَّاكي (يوسف بن أبي بكر-)
(555 ـ 626هـ/1160 ـ 1229م)
يُوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكَّاكي، أبو يعقوب سراج الدين، ولد في خوارزم وتوفي فيها على الأغلب.
لقب بـ «السكاكي» نسبة إلى مهنة السِّكاكة (الحدادة) التي كانت تحترفها أسرته، إذ كانت تشتهر بصناعة السكك (المحاريث). وظل السكاكي يعمل في صناعة المعادن إلى أن بلغ الثلاثين من عمره، فأتقن مهنته وحذق فيها حتى نال حظوة ومَكْرُمة عند أولي الأمر، فقد ذكرت بعض الروايات أنه قام بصنع محبرة صغيرة ذات قفل عجيب، لا يزيد وزنها على قيراط واحد، وأهداها إلى الملك، فأعجب بها كثيراً فقربه إليه، وأكرم وفادته. واتفق أن كان عند الملك يوماً فدخل رجل عليه، فما كان من الملك إلا أن قام واقفا احتراماً لذلك الرجل وأجلسه في مقامه، وحين سأل السكاكي عن الرجل، قيل له إنه من طائفة العلماء، فوقع ذلك في نفسه، وبدأ يتفكر في حاله، وفيما رآه من إجلال الملك للعالم. فانكب من ساعته على تحصيل العلوم، وكان إذ ذاك قد ذهب من عمره ثلاثون عاماً، فكان اندفاعه ورغبته في طلب العلم عظيمين حتى استطاع أن يتبحر في العلوم المختلفة، فتحول بذلك من سكّاك ماهر إلى عالم بارع.
أما ثقافته فكانت ثقافة أبناء عصره، وهي: الدراسات القرآنية والفقهية واللغوية وأصول علوم اللغة والبلاغة والعروض والاستدلال، فضلاً عن المنطق وعلم الكلام اللذين كان لهما رواج في عصره.
لم يقتصر السكاكي على اللغة العربية، بل كان عارفاً باللغتين التركية والفارسية، كما تشير المصادر إلى أنه عمل بالسحر قبل انصرافه إلى تحصيل العلم.
والسكاكي حنفي المذهب، معتزلي العقيدة، تتلمذ لأشهر فقهاء الحنفية في عصره، وهم: سديد الدين الحياطي، وابن صاعد الحارثي، ومحمد بن عبد الكريم التركستاني، ونال في عصره شهرة واسعة حتى وصفه  ياقوت الحموي بقوله:  «فقيه متكلم  متفنن في علوم شتى، وهو أحد أفاضل العصر الذي سارت بذكرهم الركبان».
والسكاكي معدود مـن أعيـان رجال البلاغة في القرن السابع الهجري، ولـه مصنفات شتى، منها: «كتاب الجمل» وهو شرح لكتاب الجمل لعبد القاهر الجرجاني، وكتاب «التبيان» و«الطلسم» وهو باللغة الفارسية، وله «رسالة في علم المناظرة».
أما غُرَّة مؤلفاته فهو كتاب «مفتاح العلوم» الذي لم يطبع له سواه.
وقد قسم كتابه هذا ثلاثة أقسام رئيسية، تحدث في القسم الأول منها عن علم الصرف والاشتقاق، وخص القسم الثاني بعلم النحو و موضوعاته، وجعل القسم الثالث لعلمي المعاني والبيان، ألحق بهما مبحثاً عن الفصاحة والبلاغة، وآخر عن فنون البديع بمحسناته اللفظية والمعنوية. ثم وجد أنه لا غنى لدارس علم المعاني عن الوقوف على علوم المنطق والعروض والقوافي، فأفرد لها مبحثين في نهاية كتابه.
وشهرة السكاكي ترجع، بالفعل، إلى القسم الثالث من كتابه الذي تناول فيه علوم البلاغة، فقد استطاع أن يستوعب دراسات من سبقوه في هذا المجال، ولاسيما «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز» لعبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، و«الكشاف» للزمخشري (ت 538 هـ) و«نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز» لمعاصره الفخر الرازي (ت 606 هـ).
وصاغ ذلك كله صياغة جديدة استعان فيها بقدرته المنطقية على التجريد والتحديد، والتفريع والتشعيب، والتعليل  والتسبيب، وكانت محاولته من الدقة والصرامة بحيث  تحولت البلاغة إلى مجموعة من القواعد الصارمة، والقوانين المحددة. وقد نجح السكاكي  في الإحاطة الكاملة بالأقسام والفروع، غير أنه بذلك  قد ضحى بأهم ما يميز البلاغة وهو أنها علم جمالي يبحث عن قيم الجمال والإمتاع في العمل الأدبي، وبذلك انحرفت البلاغة إلى طرق قادتها إلى الذبول والجفاف والجمود؛ فعمد من جاء  بعده إلى شرح مفتاحه ثم إلى تلخيص هذا المفتاح، ثم إلى تلخيص التلخيص, ثم إلى نظم التلخيص شعراً، ثم عادوا إلى شرح هذا النظم، وهكذا تعقدت البلاغة، وفقدت ذاك  الجانب الجمالي الفني فيها.
ويبقى السكاكي من أبرز مؤسسي علوم البلاغة العربية، وعلَماً من أعلامها في القرن السابع، ومن أوائل الذين قسموها إلى أنواعها المعروفة.













 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق