بسم الله
الرحمن الرحيم
جامعة سنار كلية العلوم الإسلامية والعربية
قسم اللغة
العربية
مقرر :
المدخل إلي علوم البلاغة
المستوي الأول ــ الفصل
الدراسي الأول
إعداد :
د.نميري
سليمان علي
بسم الله الرحمن الرحيم
جامعة سنار
كلية العلوم الاسلامية
والعربية
قسم اللغة العربية
المستوي الاول ــ الفصل
الدراسي الاول
اسم
المقرر المدخل لعلوم البلاغة ساعات المقرر:ساعتان اسبوعياً
اهداف
المقرر:
ـ الوقوف علي تاريخ نشأة البلاغة وتطورها .
*وصف المقرر:
يعني هذا المقرر بدراسة تاريخ البلاغة :نشأتها وتطورها واكتمالها ، ودراسةً
مفصلةً لإبراز علمائها .
المفردات :ـ
ـ
تاريخ البلاغة وفيه البلاغة منذ نشأتها في العصر الجاهلي وتطورها في عصر صدر
الاسلام وبني امية .
ـ البلاغة في العصر العباسي ودور العلماء
اللغويين كابي عبيدة ، والمعلمين كالجاحظ .
ـ تطور البلاغة من خلال الكتب المنهجية
والكتاب المنهجيين من النقاد والبلاغيين ، ودارسي الاعجاز القرآني مثلاً :
· سر الصناعتين
لابي هلال العسكري .
· سر الفصاحة
لابن سنان الخفاجي .
· المثل السائر
لضياء الدين بن الاثير.
· بيان اعجاز
القران الخطابي لرماني.
· الرسالة
الشافية في اعجاز القران لعبد القاهر الجرجاني.
· اعجاز القران
للباقلاني .
· مفتاح العلوم
لسكاكي.
المصادر والمراجع:
1ـ مفتاح العلوم للسكاكي .
2ـ سر الصناعتين لابي هلال العسكري .
3ـ البديع لابن المعتز .
4ـ دلائل الاعجاز لعبد القاهر الجرجاني.
5ـ سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي .
6ـ العمدة لابن رشيق القيرواني .
7ـ الايضاح للخطيب القزويني.
8ـ المثل السائر لابن الاثير.
9ـ نشأة البلاغة وتطورها د. شوقي ضيف.
10ـ البيان والتبين للجاحظ.
تقويم المقرر
ـ حضور 10%.
ـ اعمال السنة 15%.
ـ الامتحان 75%.
بسم
لله الرحمن الرحیم
مقدمة :
لم تُوَلد البلاغة بوصفھا علًما ھكذا مكتملة
القواعد والأصول، بل
كانت في أول
العھد بِھا مجرد نظرات ذوقیة متناثرة نوافق إرھاصاتِھافي بعض ملاحظات شعراء ما قبل
الإسلام في تثقیف شعرھم ونقده،وصحابته في موقفھم من الشعر وبیان وفیما روي عن رسول لله وظیفته في ظل الدین الجدید، كما نستطیع الوقوف على
أولیَّات البحث ا لبلاغى في تحلیل حَّذاق النحاة القدامى لتراكیب العربیة ووضع
القواعدالضابطة لحركة التعبیر بِھا، وفي جھود المتكلمِّین والُمَفِّسرین وھم بصدد
تفسیر القرآن الكریم، وبیان أوجه إعجازه.
وقد اتفق للعلماء شيٌء من تلك المعاییر
البلاغیة في مراحل باكرة من تاریخ ھذا الفن، ثم تنامى الاھتمام بِھا على مستویات
متآخذة، أسھم في صیاغتھا ورعایتھا آنذاك بیئات علمیة تحسبھا مختلفة المشارب،ولكنھا
على أیة حال متآلفة على ھدف دینى جلیل ھو فھم لغة القرآن الكریم ومحاولة إدراك مرامیه ، وبیان
أوجه إعجازه التي تفَّرد بِھا عما سواه من صنوف الكلام، وبزغ من خلال تلك
الآفاق نجم البلاغةالعربیة.
فكان أن تناول العلماء بالبحث خواصَّ تراكیب
الكلام من حیث تقدیمه وتأخیره، وذكره
وحذفه ، وتعریفه وتنكیره، وإخباره
وإنشاؤه،وقصره وإطلاقه وفصله ووصله ،
وإیجازه وإطنابه ، وأفادوا في كل ذلك بمنھاج اللغویین والنحاة من لدن سیبویه (ت 180 ھ). وقد حاولوا إتمام ھذه الإفادة بمبحث فٍّذ في بلاغة
العربیة؛ إذ دأبوا على البحث في أحوال اللفظة المفردة، وھي اللبنة الأولى التي
تتشَّكُل منھا الجملةوالجمل والأسلوب، فبحثوا في العلاقة بین مبناھا ودلالتھا،
وموقعھا من التراكیب، وموافقتھا للغرض الذي سیق له الكلام، واشترطوا لفصاحةالكلمة والكلام
والمتكلمِّ شروًطا بعضھا نسبي یرجع إلى أذواق المتلقیِّن بحسب اختلاف الأعصر
والثقافات، ویرجع بعضھا الآخر إلى عناصرثابتة في طبیعة اللغة بنحوھا وصرفھا، ثم
جعلوا ذلك فیما بعد مقدمةأولیَّة واجبة لتحلیِل النصوص ونقدھا.
وقد تزامن مع بحثھم في خواصّ التراكیب مباحث
أخرى لصیقةالصلة بحقل الدلالة بین الحقیقة والمجاز، مما یتدارسه أھل اللغة وأصول الفقه
كذلك، فطفق البلاغیون یتجاذبون إلى بحثھم مسائلھا وتفریعاتھا ، ویتخذوَنھا مھادًا لتناول الطرائق التعبیریة
التي ترَّتبتْ علیھا من تشبیه ومجاز
وكنایة وتعریض، مما شاع في كتاب العربیة القرآن الكريم
،وحدیث رسول لله (ص)،وآداب القوم
شعره ونثره، بوصفها هي الأخرى وسائل تُسھم مع غیرھا في تشكیل الصورة
الأدبیة، وتتفاوت في درجة الإیضاح والتأثیر.
وَثَّمة وسائل بلاغیة أخرى عنوا ببحثھا،
وكانت قد تَمَّخضت من مقدرة المبدع على التوفیق بین المتقابل أو المتناسب، إّما في
المعنى بغرض توفیته وتأكیده، وإما في
اللفظ بغرض استجلاب التناسب الإیقاعي الذي یجاذب النفوس وُیؤِّثر فیھا.
كل ھذه العناصر مجتمعة ھي التي یتشَّكل منھا
النصُّ الأدبي، وقد كان العلماء الُأول یتدارسوَنھا متآلفة تحت أي مصطلح من تلك
المصطلحات: البلاغة أو البیان أو البدیع، وھي وإن اختلفت أسماؤھاومدلولُاتھا من
الوجھة اللغویة، فلم یكن ھناك خلاف حول مسَّماھاومحتواھا الذي یضم وسائل التعبیر
المتنوَعة، ویترادف في الدلالةعلیھا، لم یماِر في ذلك أحد - فیما نعلم - إلا مراًء
ظاھًرا.
ظلت البلاغة وھي على تلك الھیئة المتآلفة في
البحث والتحلیل حینًا من الدھر امتدَّ في التاریخ قرابة خمسة قرون، وھي على تلك
الھیئة المتآخذة في البحث والتحلیل، وإن بزغ خلال تلك الفترة إرھاصات تجنح نحو
تفریع عناصر البلاغة وتحدید مباحثھا.
ثم أتى على البلاغة حین آخر من الدھر عمد
فیه علماؤه عمًدا إلى تشقیق عناصرھا
وتحدید مسائلھا، وأوغلوا في ذلك إیغالًا؛ فجعلواخواصَّ التراكیب التي سماھا عبد
القاھر بمعاني النحو من مسائل علم المعاني، فَفصلوا بذلك النحو عن معانیه . كما
خصُّوا ما یقع تحت مبحث الحقیقة والمجاز من التشبیه والاستعارة والكنایة بعلم البیان، ثم آثروا
وسائل توفیة المعنى والإیقاع بمصطلح البدیع، وقد تبلور ھذاالتقسیم على ید السكاكي
(ت 626 ھ) في كتابه مفتاح العلوم، ثم اتضحت فیما بعد معالمھا على ید القزویني (ت 739 ھ) وشراح تلخیصه .
ومما یستلفت النظر ھھنا أن معظم مؤِّرِخى
البلاغة یُحِّملون ا لسكاكي وحده وْزَر ھذه الفَعَلة وأوشابِھا التي لم تكن یوًما
في حسبان الرجل أو من مقصوده؛ حیث فقد ھدانا استقراء تاریخ العلم إلى أن السكاكي
لم یكن بدعا فیما ذھب إليه ، بل وجد في تراث سلفه
مھاداًیتھدي به في مذھبه ،
وُیْسلمِه إلى سبیل معھود في تقسیم
البلاغة،وتحدید معالم كل قسم من أقسامھا، بوصفھا معاییر صالحًة لتربیةالأذواق،
والحكم على مدى فنیة العمل الأدبى، وقد فعل ما فعل بوازع من النھج التعلیمى الذي
ساد عصره، واقتضته طرائق القوم في
المعرفةآنذاك.
نقول ذلك ونحن نسترجع ما یترَّدد على الأذھان منذ أمد؛
إذ تتابع جمھرة من المحدثین([ 1]) على وَصْم مذھب السكاكي بالعقم والجمود؛لجفاف
الطریقة المنطقیة التي توَّسل بِھا في تحدید المعالم، مما نأيب البحث البلاغي عن
رحابة الطریقة الأدبیة التي كانت تُعنى بالإكثارمن النصوص، وبیان مرجع الافتنان
فیھا، إلى حصره في إطار تقریرالقاعدة وَسوق الشواھد المتوارثة علیھا عادة من غیر
تحلیل یكشف عن مرجع البلاغة فیھا، فضلًا عما أوھم بھا تقسیم البلاغة من تمزیٍق لأوصالھِا، وَتھمیشٍ
لبعض عناصرھا.
وفي ظني أن نقد متجه السكاكي الذي یلمز به بعض الباحثین بلاغتنا، ویتذاكره معظمھم لأدنى
ملابسه ، ینبغي ألا یقع على عاتق التقسیم في حِّد ذاته ، إْن كنا نُسلمِّ بداھة
بأن تقسیم العلم – مذ كان –لازمة منھجیة یقتضیھا مقام التعلیم والدرس، ویفرضھا
تراكم المعرفة في كل آن، بل یحُّق لذلك النقد أن یتجه إلى نظرة اللاحقین لصنیع السكاكي، وطریقة
تناولھِم لفنون كل قسم من أقسام البلاغة، وذلك حین صرفوا جَّل ھِّمھم إلى مجرد
التعریف بالفن، وَسوق الشواھد والأمثلة
المتوارثة له ، عادة من غیر تحلیل یكشف عن مرجع البلاغة والافتنان فیھا.
إن النظر المنصف في مقدمة كتابه (مفتاح العلوم) وغایته ،وطریقته في التحلیل، یقضى بتبرئة ساحته ، ویعفیه من ذنوب الذین لم یقرءوه، أو أساءوا قراءته ،
وفھموا كلامه على غیر وجھه ، وكأن السكاكي
كان یستشعر موقف ھؤلاء جمیًعا فقال في مقدمته :" وقدضَّمنْتُ كتابي ھذا من
أنواع الأدب دون نوع اللغة ما رأیتُه لا
بد منھا،وھي عدة أنواع متآخذة – لاحظ معى دلالة متآخذة – فأودعتھا علم الصرف
بتمامه ، وإنه لا یتم إلا بعلم الاشتقاق
المتنوع إلى أنواعھا الثلاثه وقد كشفتُ
عنھا القناع، وأوردتُ علم النحوبتمامه ، وتماُمه
بعلمَي المعاني والبیان، ولقد قضیتُ بتوفیق الله منھما الوطر، ولما كان
تمام علم المعاني بعلمي الحد والاستدلال لم أَر بُدًّا من التسُّمح بِھما، وحین
كان التدُّرب في علمي المعاني والبیان موقوفاً على ممارسة باب النظم وباب النثر،
ورأیتُ صاحب النظم یفتقر إلى علمي العروض والقوافي،تثنیتُ عنان القلم إلى
إیرادھما، وما ضَّمنْتُ جمیع ذلك كتابي ھذا إلابعد ما مَّیزتُ البعض عن البعض
التمییَز المناسبَ، ولخصتُ الكلام على حسب مقتضى المقام ھنالك، ومھدَّتُ لكِّل من
ذلك أصولًا لائقة،وأوردتُ حَجًجا مناسبة، وقَّررتُ ما صادفتُ من آراء السلف قَّدس
لله أرواحھم بقدر ما احتملت من التقریر، مع الإرشاد إلى ضروب مباحثقلتَّ عنایُة
السلف بِھا، وإیراد لطائف مْفتَنَّة ما فتَق أحٌد بِھا رْتق أذن"(مقدمة
الكتاب: ص 4، مطبوعة الحلبي).
كما أن وضوح تلك الغایة التعلیمیة في نظره
جعلته یُلُّح على أن علم البیان شعبة من
علم المعاني لا تنفصل عنھا إلا بزیادة
اعتبار، فھویجرى منھا مجرى المركب من
المفرد، ولذلك آثر تأخیر تناولھا عن علم
المعاني([ 2])، وكأنه یشیر بذلك إلى أن
تقسیم البلاغة لا یُنافي اعتبارالصلات القویة بین فروعھا، بل ینبغي كذلك ألا یوھم
بتمزیق أواصرالقربى بینھا.
ومن البديهي
أن كل معارف العربیة تتصل فیما بینھا اتصالًا طبعیا،ًحیث ارتبطت بأواصر
القربى أو النسب إلى اللغة، وترَّتب بعضُھا على بعض، حتى صارت البلاغُة ثمرَتھا
التي تتمَّخض عنھا جمیعا،ًوتتواشج بِھا تواُشَج الشجرة بجذورھا، وكما تتمَّثل ھذه
المعارف اللغویةالمتآخذة في عقل المبدع ووجدانه
حینما یبدع نصّھ، ینبغي أن تتھَّیأ أیضا في عقل ناقده؛ ومن ثم كان على
البحث البلاغي أن یتوَّسل في بناء معالمه
بنتائج ھذه المعارف والعلوم، فیسترفد من علم الصرف مثلًا معارفه عن أحوال اللفظة المفردة من حیث تناغم
أصواتِھا،وتجاوب بنیتھا مع مدلولھا في السیاق، ویسترفد من فقه اللغة تناولھا
تطور الدلالة بین الحقیقة والمجاز، ومن قضایا التضاد والمشترك اللفظي وغیرھما
في وقوفھا على بعض مناحي البدیع، وفوق ذلك
یتوَّخى البحث البلاغى معانى النحو في أثناء تحلیله لخواص التراكیب من حیث التعریف والتنكیر،
والذكر والحذف، والتقدیم والتأخیر،والفصل والوصل، والإطلاق والقصر، وخروج الكلام
عن مقتضى الظاھر، وغیر ذلك من المعارف التي تُعینھا على تحلیل النصوص ونقدھا.
وما كان للفصل بین علوم العربیة من جھة، وعلوم
البلاغة من جھة أخرى، لیطمس ھذه البدائه ، بل كان تقسیم العلوم استجابًة منھجیة
تفرضھا تراكم المعرفة؛ لیسھل بحثُ عناصرھا، وتحصیُل مسائلھا في مقام البحث والنظر
حینا،ً أو في مقام التعلیم وتربیة الأذواق حینا آخر،وھذا لا یُوھم بتمزیق الأواصر
بین ھذه العلوم، أو یرمى إلى تقطیع أوصال العمل الأدبى؛ فندرسها طورا من حیث تراكیبھا ، وُنحللِّھا طوًرامن حیث صوره البیانیة، وطورا ثالثا من حیث
مناحى البدیع فیھا ، فذاك نظر قاصر یتجافى
مع الواقع التعبیري في النصوص العالیة، سواٌء في حالة إبداعھا، أو في حالة
تلقیھا قراءة وتحلیلًا ونقدا ؛ً إذ ھي تتھَّیأ لنافي كلتا الحالتین كالجسد الواحد
الذي تتداعى أعضاؤه على تشكیل صورته
الأدبیة، وإبراز أغراضه وأثره في
النفوس.
وعلى ھدي من تلك الطریقة في التفكیر والنظر،
یسیر مذھبنا في بحث البلاغة وتدریسھا، سالًكا بك ما أمكن سُبَل المعرفة المباشرةبطرائق
تراثنا في تناول فنون البلاغة وأسالیبھا المتنوعة بوصفھا مجتمعة معاییر صالحة
لتحلیل النصوص ونقدھا، وھذه سبیل ستسلمك إلى الالتقاء بنظریة الصورة الأدبیة
وبلاغة النص التي انتھي إلیھاالمحدثون على اختلاف مذاھبھم في التحلیل والنقد.
ولا یقف مذھبنا عند سُبل المعرفة النظریة
بطرائق الفن التي لا بد من تحصیلھا، بل تَطرق بك سبلًا متنوعة من التطبیق
والتدریب، اخترناھا من أي الذكر الحكیم
وحدیث رسول لله ( ص ) ، والنصوص العالية
من آداب العرب، وتتدرج بك ھذه التدریبات من المثال الواحد إلى المثالین، إلى
الأمثلة المتعددة، إلى النص الكامل؛ حتى تُعینك على تثبیت المعرفة من جھة،
وُتدِّربك على استخلاص العناصر البلاغیة التي تتشَّكل منھا الصورة الأدبیة من جھة
أخرى.
نشأة البلاغة العربية ومراحل تطورها
البلاغة
كغيرها من العلوم الإسلامية لم تكن وليد ساعة أو يوم وإنما مرت بمراحل عديدة حتى
اكتمل نضجها حتى اكتمل نضجها وأصبحت علماً مستقلاً قائماً بذاته له قواعده
وقوانينه .
البلاغة في العصرين الجاهلي والإسلامي
عرف
العرب بالفصاحة والبلاغة وحسن البيان وقد بلغوا في الجاهلية درجة رفيعة من البلاغة
والبيان وقد صوّر القرآن ذلك في آيات عديدة وقوله تعلى ( ومن الناس من يعجبك قوله
في الحياة الدنيا ) كما وضح القرآن شدة قوتهم في الجدال والحجاج " ما ضربوه
لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون "
ومن أكبر الدلائل على أنهم
بلغوا في البلاغة درجة عالية رفيعة أن كانت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وحجته
الدالة على نبوته القرآن , حيث دعاهم إلى معارضته , وتحداهم بأن يأتوا في
بلاغته الباهرة ، وهي بلا شك دعوة تدل بوضوح على تمكنهم ورسوخ قدمهم في البلاغة
والبيان ، وعلى بصرهم بتمييز أقدار المعاني والألفاظ وتبيين ما يجري فيها من جودة
الإفهام وبلاغة التعبير
وقد وصف الجاحظ العرب
بالبلاغة والفصاحة وقدرتهم على القول في كل عرض حيث يقول ( والكلام كلامهم وهو سيد
عملهم قد فاض به بيانهم وجاش به صدورهم وقد حفلت كتب الأدب كالأغاني لأبي الفرج
الأصفهاني والشعر والشعراء لابن قتيبة والموشح في مآخذ العلماء على الشعراء
للمزرباني بنماذج عديدة من النقد الجاهلي الذي كان بدور في أسواقهم المعروفة في
الجاهلية كعكاظ ، من ذلك أن النابغة كانت كضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ فتأتيه
الشعراء تعرض عليه أشعارها فيقول فيها كلمته فتسير في الناس لا يستطيع أحد أن
ينقضها . من ذلك قصته المشهورة في تفضل الأعشى على حسان بن ثابت ، وتفضيل الخنساء
على بنات جنسها فثار لذلك حسان وقال له : أنا والله أشعر منك ومنها فقال له
النابغة حيث تقول ماذا ؟ قال حيث أقوله :
لنا الجفنات الغر يلمعن
بالضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني
محرّق *** فأكرم بنا خالا وأكرم
بنا ابنما
فقال له النابغة : إنك لشاعر
لو أنك قللت عدد جفانك وسيوفك وقلت يلمعن في الضحى ولو قلت يبرقن لكان أبلغ في
المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً ، وقلت يقطرن من نجدة دما فدللت على قلة
القتل ، ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم ، وفخرت بمن ولدت ولم
تفخر بمن تفخر بمن ولدك ، فقام حسان منكسراً .
ومن ذلك أيضاً قصة طرفة بن
العبد وهو صبي عندما سمع المتلمس ينشد قوله .
وقد أتناسى الهم عند
احتضاره ***
بناج عليه الصيعرية مكدم
الصيعرية سمة تكون في عنق
الناقة لا في عنق الجمل فقال طرفة : استنوق الجمل , فضحك الناس وسارت مثلاً , ومن
ذلك أن العرب عابت على النابغة الذبياني الإقواء الذي في شعره ولم يستطع أحد أن
يصارحه بهذا العيب حتى دخل يثرب مرة فأسمعوه غناء قوله :-
أمن آل مية رائح أو
مغتدي *** عجلان ذا زاد وغير مزود
إلى قوله :
بمخضب رخص كأن
بنانه *** عنم يكاد من اللطافة يعقد
ففطن النابغة فلم يعد إلى
ذلك ، ويروي أنه حين خرج قال دخلت يثرب فوجدت في شعري صنعة فخرجت منها وأنا أشعر
العرب .
وتروي كتب الأدب هذا البيت
قوله .
زعم البوارح أن رحلتنا
غداً *** وبذاك خبرنا الغرابُ
الأسود
وأنه أصلحه بقوله :- وبذاك
تنعاب الغرب الأسود .
وهناك أمثلة عديدة لكننا
نكتفي بهذا القدر مشيرين إلى أن العرب في جاهليتهم كانت لديهم ملكة فنية استطاعوا
من خلالها معرفة الكلام وتمييز جيده من رديئه .
ولا يخفى أن هذه الملاحظات
النقدية كانت تعتمد على الذوق فهي نقد ذاتي لا يقوم على التعليل والتفصيل ، وبمرور الزمن ذكر
العلماء لهذه الأحكام والملاحظات النقدية تعليلات تقوم على أسس بيانية ، وتحول هذا
النقد إلى نقد بياني ينظر إلى المعاني والألفاظ على أيدي البلاغيين.
البلاغة في عصر صدر الإسلام
لاشك أن للقرآن
تأثيراً عظيماً في نشأة البلاغة وتطويرهما فقد عكف العلماء على دراسته وبيان أسرار
إعجازه ، واتخذوه مداراً للدرس البلاغي فاتخذوا آياته شواهد على أبواب البلاغة
واعتبروها مثالاً يحتذى في جمال النظم ودقة التركيب .
وكان
النبي صلى الله عليه وسلم وهو كما نعلم كان أفصح العرب . كما كان شديد الاهتمام
والعناية بالشعر والشعراء يحرص على سماعهم والإشادة بشعرهم من ذلك قوله لحسان رضي
الله عنه " قل وروح القدس يؤيدك " وقوله عندما سمع قول النابغة الجعدي
بلغنا السماء مجدنا
وجدودنا *** وإنا لنبغي فوق ذلك مظهراً
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أين
المرتقى ياأبا ليلى : فقال إلى الجنة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " لا
فض فوك
" .
وقد ظلت وفود العرب تختلف في عهد الخلفاء
الراشدين إلى المدينة وتجمعهم أنديتها فيخوضون في شعراء الجاهلية والشعراء
والمخضرمين وينظرون في الشعر والخطب ويجرون المفاصلات بين الشعراء والخطباء
وقد كان الخلفاء يخوضون في ذلك ولهم مشاركات في النقد من ذلك ما روى عن أبي
بكر الصديق رضي الله عنه أنه عرض لرجل معه ثوب فقال له : أتبيع الثوب ؟ فأجاب : لا
عافاك الله فقال له أبوبكر : علمتم لوكنت تعلمون قل لا وعافاك الله " وقد
كانت لعمر وعلي رضي الله عنهما مساهمات في النقد ، فقد كان عمر بن الخطاب من أنقد
أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة من ذلك قوله " الشعر علم قوم لم يكن له
علم أعلم منه
"
وقوله في زهير " كان لا يعاظل في الكلام
" أما علي رضي الله عنه فقد اشتهر بالفصاحة والبيان , وفصاحته معروفة
لا تخفى على أحد ‘ وقد روى أن أعرابياً وقف على علي رضي الله عنه فقال : إن
لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك فإن قضيتها حمدت الله تعالى
وشكرتك وإن لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك ، فقال له علي : خطّ حاجتك في الأرض
فإني أرى الضر عليك ، فكتب الإعرابي على الأرض إني فقير ، فقال علي : يا قنبر إدفع
إليه حلتي الفلانية ، فلما أخذها مثل بين يديه فقال :
كسوتني حلةً تبلى محاسنها * * *
فسوف أكسوك من حلل الثنا حللاً
إن الثناء ليحيى ذكر صاحبه * * * كالغيث
يحيى نداه السهل والجبلا
لاتزهد الدهر في عرف بدأت
به فكلّ عبد سيجزى بالذي فعلا
فقال عليّ ياقنبر أعطه خمسين ديناراً ، أما
الحلة فلمسألتك وأما الدنانير فلأدبك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
أنزلوا الناس منازلهم .
وبهذا تبين لك أن للخلفاء معرفة بالشعر ونقده
، كما أن ملاحظاتهم النقدية كانت كالجاهلين جزئية فطرية تعتمد على الذوق دون تعليل لها .
هذه الأحكام والملاحظات هي التي استحالت على
أيدي البلاغيين من أمثال الباقلاني والرماني والعسكري وعبد القاهر والسكاكي إلى
قواعد بلاغية محددة تحديداً علمياً دقيقاً قصد منها الوقوف على وجه إعجاز القرآن
البلاغي وتكوين الذوق الأدبي الذي يستطيع إنشاء الكلام البليغ ومعرفة جيدة ويفاضل
بينه . وهنا سؤال على قدر كبير من الأهمية لِمَ لم تظفر البلاغة التعليمية
بشيء من التدوين في عصر صدر الإسلام مادام أن تدوينها وتعليمها من أمور الدين أو
من الأمور التي يحتاج إليها المسلم كما يحتاج إلى معرفة الحلال والحرام ؟
الجواب
على ذلك: أن الصحابة والتابعين كانوا يعرفون من القواعد البلاغية التي يقوم عليها
إنشاء الكلام الفني والتي كانوا يعتمدون عليها في تمييز الكلام الجيد من الرديء لأنها
كانت مركوزة في طبائعهم لذلك لم يحتاجوا إلى تدوينها على حد قول بهاء الدين
السبكي في كتابه عروس الأفراح 1/53. ويعلل الزركشي صاحب كتاب البرهان
في علوم القرآن عدم تدوين البلاغة في صدر الإسلام بأن القصد من إنزال القرآن
الكريم تعليم الحلال والحرام وتعريف شرائع الإسلام وقواعد الإيمان ، ولم يقصد منه
تعليم طرق الفصاحة ، وإنما جاءت الفصاحة لتكون معجزة ، وكانت معرفتهم بأساليب
البلاغة مما لا يحتاج إلى بيان ، بخلاف استنباط الأحكام ، فلهذا تكلموا في الثاني
دون الأول 2/132.
البلاغة في عصر بني أمية
في عصر
بني أمية كثرت الملاحظات النقدية كثرة عظيمة عملت فيها بواعث وأسباب كثيرة منها
تحضر العرب واستقرارهم في المدن والأمصار ، وازدهار العلوم ورقيها مما أدى إلى رقي
الحياة العقلية للأمة الإسلامية .حيث أخذوا يتجادلون في جميع شؤونهم السياسية
والعقدية فكان هناك الخوارج والشيعة والزبيريون والأمويون ، والمرجئة والقدرية
والمعتزلة ، فكان طبيعياً أن ينمو النظر في بلاغة الكلام وأن تكثر الملاحظات
البيانية المتصلة بالكلام لا في مجال الخطابة والخطباء فحسب ، بل وفي مجال الشعر
والشعراء بل لعل المجال الثاني كان أكثر نشاطاً لتعلق الشعراء بالمديح وتنافسهم
فيه .
وفي هذا العصر نشطت حركة النقد سواء في مجال
مجالس الخلفاء والولاة أو في الأندية الأدبية كسوق المربد في البصرة وسوق الكناسة
في الكوفة حيث كان الشعراء يجتمعون في هذه الأسواق لينشدوا الناس خير ماصاغوه من
الشعر .
وإليك بعض الأمثلة التي توضح ذلك:
من ذلك ما يقال من أن ذا الرمة كان ينشد بسوق
الكناسة في الكوفة إحدى قصائده فلما وصل إلى قوله :
إذا غير
النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب
مية يبرح
صاح به
ابن شبرمة : أراه قد برح وكأنه لم يعجبه التعبير بقوله لم يكد ، فكف ذو الرمة
ناقته بزمامها وجعل يتأخر بها ويفكر ثم عاد فأنشد .
النأي إذا غيّر المحبين لم أجد ....
ومن ذلك أيضاً أنه اجتمع الكميت ونصيب وذو الرمة ،
فأنشدهما الكميت ما قال حتى بلغ قوله :
أم هل ظعائن بالعلياء
نافعة وإن تكامل فيها الأنس والشنب
عقد نصيب واحدة : فقال له الكميت ماذا تحصى ؟
قال : خطأك باعدت بين الأنس والشنب .
فنصيب ينقد الكميت لأنه جمع بين أمرين لا
يجتمعان في الخارج ولا في الذهن . وهو بما يعرف بمراعاة النظير .
ومن ذلك ما روي عن الحجاج حين أنشدته ليلى الأخيلية
قولها :
إذا ورد الحجاج أرضاً مريضةً ***
تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ***
غلام إذا هزّ القناة ثناها
فقال لها الحجاج لا تقولي غلام ، ولكن قولي همام .
لأن لفظ الغلام يشعر بالصبوة والنزق والجهل .
ومن ذلك ما روي عن عبد الملك بن مروان حين مدحه عبد الله
بن قيس الرقيات بقصيدة منها قوله.
يأتلق منها التاج فوق مفرقة ***
على جبين كأنه الذهب
فغضب عبد الملك وقال له : قد قلت في مصعب بن الزبير :
إنما مصعب شهابه من الله ***
تجلت عن وجهه الظلماء
فأعطيته المدح بكشف الغمم وجلاء الظلم وأعطيتني من المدح
مالا فخر فيه وهو اعتدال التاج فوق جبيني الذي هو كالذهب في النضارة.
ومن ذلك ما روي عن ذي الرمة حين أنشد هشام بن عبد الملك
قصيدته التي مطلعها :
ما بال عينيك منها الماء ينسكب فزجره هشام وقال له بل
عينيك . فهشام عاب على ذي الرمة قوله لعدم مراعاته المقام ، وهو ما يعرف لدى
البلاغيين ببراعة الاستهلال .
ولعلّ في كل ما قدمنا من الأمثلة ما يدل على أن
الملاحظات البيانية في العصور القديمة جاهلية وإسلامية لم تغب عن أذهان البلاغيين
حين أصّلوا قواعد البلاغة، وهي بحق تعد الأصول الأولى لقواعدهم .
البلاغة في العصر العباسي
تطورت البلاغة
العربية وإزدهرت بمجئ الإسلام، ثم ازدادت كما وكيفما باتساع الرقعة الإسلامية ، وما شهدته فى جميع مناصب الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية والأدبية.
57 ). ودخل الناس فى دين الله أفواجا واختلطت الأجناس العربية : (أبو الرضا، 1984
بغيرها من الفرس، واحتكت بأجناس من الهند، وغيرهم من الوافدين على الدولة الإسلامية من تجار ودارسين.
وتنوعت روافد الفكر من ترجمات ونقولات فى مكان له أثر فى مجال البلاغة العربية، فظهرت الدراسات التى تخدم القرآن الكريم، ودراسات فى الإعجاز القرآنى (19: وغيرها من الدراسات. (أبو على، 1991
وكذلك اشتهر العديد من العلماء فى مجال البلاغة ممن كان لهم باع كبير نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: عبد الله بن المقفع (ت، 143 ه)
الذى اشتهر فى الكتابة والتأليف والترجمة وله آراء عظيمة فى البلاغة.
أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمى
(ت،
210 ه)
صاحب كتاب "مجاز القرآن" الفراء وهو أبو زكريا بن عبد الله صاحب كتاب "معانى القرآن" (ت،
207 ه)،
الجاحظ (ت، 255 ه)
صاحب كتاب "البيان والتبيين" والخطابى
(ت،
388 ه)
صاحب
كتاب "إعجاز القرآن"
وغيرهم كثيرون أمثال ابن المعتز، والرمانى، وأبو هلال العسكرى.
وبعد ذلك ازدهرت الدراسات البلاغية ازدهارا كبيرا، فى العصر العباسى الثانى وذلك فى
القرن الخامس الهجرى، وذلك على يد عبد القاهر الجرجانى المتوفى عام ( 471 ه)
صاحب
كتابى"دلائل الإعجاز"
و"أسرار البلاغة".
وكذلك هناك الزمخشرى صاحب كتاب "الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل" (ت،
538 ه).
واهتم الزمخشرى بعلمى المعانى والبيان، وجعل لكل منهما مباحثه الخاصة به. وفى القرن السابع الهجرى اشتهرعلى بن ظافر المصرى، والسكاكى، وابن الاثير، وحازم القرطاجنى.
وفى القرن الثامن، اشتهر الطيبى والزركشى. وفى القرن التاسع، اشتهر النواجى.
وفى
.(1996 : القرن العاشر، السيوطى. وفى القرن الحادى عشر، يوسف البديعى. (عبد الله 46
البحث البلاغي نشأته وتطوره
بدأ
التأليف في علوم البلاغة مع بداية مرحلة التأليف في العلوم الإسلامية في منتصف
القرن الثاني للهجرة ، وقد مرت البلاغة عبر رحلتها الطويلة بثلاث مراحل .
المرحلة
الأولى : مرحلة
النشأة والنمو .
نزل
القرآن الكريم ليكون كتاب هدية ودستور حياة يهدي للتي هي أقوم وليكون معجزة
للعالمين ودليلاً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون في عصر صدر
الإسلام يعتمدون على طبعهم الأصيل في معرفة وإدراك إعجاز القرآن ، كما كانوا
يعتمدون على طبعهم وذوقهم السليم في معرفة ضروب الكلام وتفضيل شاعر على آخر .
ثم انتشر
الإسلام واتسعت رقعة الدولة الإسلامية وكثر عدد الداخلين في الإسلام أخذت هذه
العناصر تمتزج بالعرب امتزاجا قوياً كان له أثره الكبير على اللغة العربية حيث أخذ
الذوق العربي ينحرف وبدأت الملكات تضعف والإحساس ببلاغة الكلام يقل . وفشا اللحن
على الألسنة . حينئذ ظهر العلماء فقاموا بوضع قواعد النحو والصرف , يدفعهم إلى ذلك
حرصهم على لغة القرآن الكريم فظهرت لذلك كتب عديدة اهتمت بالعربية , بالإضافة إلى
الإشارة إلى بعض الملاحظات البلاغية التي كانت مبثوثة في تضاعيف هذه الكتب وبذلك
بدأت البلاغة رحلتها ، ومن أهم هذه الكتب :
كتاب مجاز
القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 210 وقد كان أبو عبيدة من أوسع أهل
البصرة علماً باللغة والأدب، والنحو، وأخبارها وأيامها.
سبب تأليفه لهذا الكتاب: تروي كتب
الأدب أن الفضل بن الربيع وزير الرشيد استقدم أبا عبيدة من البصرة لحضور مجلسه,
فلما حضر إلى المجلس، سأل إبراهيم بن إسماعيل الكاتب أبا عبيدة عن قوله تعالى (
طلعها كأنه رؤوس الشياطين ) وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله ، وهذا لم يعرف
, فقال أبو عبيدة إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم أما سمعت قول أمريء القيس
أيقتلني والمشرفي
مضاجعي *** ومسنونة رزق كأنياب أغوال .
وهم لم يروا الغول قط ، ولما كان أمر الغول
يهولهم أوعدوا به, فا ستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل ، وأزمع أبو عبيدة عند ذلك
أن يضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه . وكلمة مجاز ليس المراد بها المعنى
الاصطلاحي المعروف عند البلاغيين لهذه الكلمة وإنما تعني الطريق أو المعبر .
فكتاب أبي
عبيدة ليس كتاباً بلاغياً وإنما هو كتاب في التفسير حيث فسر فيه الألفاظ القرآنية
بما ورد مثلها في كلام العرب , وفي معرض تفسيره لآيات القرآن الكريم نثر بعض
الملاحظات البلاغية , وأشار إلى بعض مسائلها كالإيجاز والإطناب والتقديم والتأخير
دون تسمية لها ، كما أشار إلى خروج بعض الأساليب الإنشائية عن دلالتها الأصلية إلى
بعض المعاني كالاستفهام والأمر والنهي ، كما تحدث عن الالتفات ، والتشبيه وتعرض
للمجاز العقلي من غير تسمية له وإنما أشار إلى بعض شواهد ه التي أفاد منها
البلاغيون فيما بعد .
ثم جاء
بعده الفراء المتوفى سنة 207 هـ ووضع كتابه معاني القرآن , والفراء هو أبو زكريا
يحيى بن زياد الفراء ،كان من أعلم أهل الكوفة بالنحو واللغة وفنون الأدب .
وكتاب معاني القرآن يعالج المشاكل التي
عالجها أبو عبيدة غير أن ثقافته النحوية قد ظهرت في كتابه بوضوح ، فهو يشرح بعض
ألفاظ القرآن وبعض الأساليب البيانية والتراكيب الإعرابية ويرد كل ذلك إلى مذاهب
العرب , وقد نثر في تضاعيف هذا الكتاب بعض الملاحظات البلاغية فقد أشار إلى
الإيجاز، وأشار إلى بعض صور الإطناب وبيّن الغرض البلاغي منها ، وتحدث عن التقديم
والتأخير ، ولاحظ خروج الاستفهام و الأمر والنهي عن دلالتها الأصلية إلى معان
بلاغية , ووقف عند صور المجاز العقلي ومثل له من القرآن ومن كلام العرب دون تسمية
له ، كما عرف التشبيه وبيّن أركانه من المشبه والمشبه به والأداة ووجه الشبه ،
وعرض للمشاكلة دون تسمية لها .
ثم جاء
القرن الثالث للهجرة فكثرت الفرق الإسلامية واشتد الخلاف فيما بينها، وأخذ الإسلام
وكذلك العرب يواجه بحملة تشكيك وطعن , واتجهت أنظار الطاعنين نحو القرآن ترميه
باللحن وفساد النظم , فانبرى العلماء يدافعون عن العرب والإسلام , ومن بين هؤلاء
المدافعين الجاحظ الذي ألف كتابه البيان والتبيين الذي دافع فيه عن العرب ضد
الشعوبيين , وفي هذا الكتاب أشار إلى بعض الفنون البلاغية كالاستعارة والتشبيه
والكتابة والإيجاز والإطناب .
وعرّف
البيان بقوله : " اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون الضمير
" كما أشار إلى أن البديع من خواص العرب ، ومنه الاستعارة والتشبيه والكناية
، كما ذكر موضوعات أخرى كبراعة المطلع والمقطع والسجع والاقتباس وغير ذلك .
وهذه
الفنون البلاغية التي ذكرها الجاحظ مبثوثة في تضاعيف الكتاب لاتوجد إلا بالتأمل
الطويل والتصفح الكثير .
وعلى أيه حال فالجاحظ من الذين أسهموا في وضع
أسس البلاغة في هذه الفترة .
ابن قتيبة :- هو أبو محمد عبد الله بن قتيبة
الدينوري 276هـ وهو من تلاميذ الجاحظ والمعاصرين له , ألف كتابه مشكل القرآن
رد فيه على الطاعنين في لغة القرآن وأسلوبه .
وقد تحدث فيه عن العرب وما خصهم الله به من
قوة البيان ، وتحدث عن وجوه إعجاز القرآن ، كما أشار إلى المجاز والاستعارة والقلب
والاختصار في الكلام والزيادة فيه ، والكناية , ومخالفة ظاهر اللفظ معناه .
ويتميز بن
قتيبة عن سابقيه بأنه قد وضع لكل لون من هذه الألوان باباً يخصه، ويحثه في ذلك بحث
أدبي ليس فيه التقسيم وتحديد المصطلحات .
المبرد : هو أبو العباس محمد بن يزيد المبرد
المتوفي في سنة 285هـ ألف كتابه الكامل في اللغة والأدب وقد نثر فيه كثيراً
من مسائل البلاغة , وعقد فيه للتشبيه باباً بدأ فيه بعرض كثير من التشبيهات
الرائعة في شعر العرب ، وقسم التشبيه إلى أربعة أقسام هي تشبيه مفرط ، مصيب ,
مقارب ، بعيد .
كما تحدث
عن الاستعارة والكناية والالتفات والإيجاز والإطناب وغير ذلك بعد ذلك أخذت هذه
الكتب تميل إلى التخصص من ذلك الكتاب البديع للشاعر الخليفة العباس عبد الله بن
المعتز المتوفى سنة 296هـ وكتاب البديع له قيمة كبيرة في تاريخ البلاغة إذ كان
خطوة في تطورها وتقدمها وبخاصة في ميدان علم البديع فقد استقل بذكر أنواعه وفنونه
, والبديع عنده يختلف عن ما عرف لدى المتأخرين من علماء البلاغة بأنه علم يعرف به
وجوه تحسين الكلام وإنما كان البديع عنده عاماً يتناول كثيراً من فنون البلاغة
كالاستعارة والكناية والتشبيه والمطابقة والجناس ، وقد دعاه إلى تأليف هذا الكتاب
تعريفه الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أنواع البديع .
وقد قسم
كتابه إلى قسمين : الأول البديع وحصره في خمسة فنون هي : الاستعارة , التجنيس ،
المطابقة , ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها ، والمذهب الكلامي .
الثاني محاسن الكلام والشعر ، وذكر أنها
كثيرة لا ينبغي لعالم الإحاطة بها ، وحصرها في ثلاثة عشر فناً منها الالتفات
والتعريض والكناية ، والتشبيه وتجاهل العارف والمبالغة والإفراط إلى غير ذلك .
ثم جاء
بعده قدامة بن جعفر المتوفى سنة 337 هـ الذي ألف كتابه نقد الشعر بين فيه أن الذي
دفعه إلى تأليف هذا الكتاب هو تقصير العلماء وقعودهم عن التأليف في النقد ووضع
كتاب فيه مع أنه أهم علوم الشعر وأولاها بالعناية .
ثم لما
اشتدت الخصومة النقدية بين العلماء حول بعض شعراء العربية ظهرت كتب نقدية توازن
بين هؤلاء الشعراء من ذلك كتاب الموازنة لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي وزان فيه
بين شعر البحتري وأبي تمام ، وكتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي على بن عبد
العزيز الجرجاني 366 .
وفي هذين
الكتابين إشارات كثيرة إلى بعض الفنون البلاغية كالاستعارة والتشبيه
والكناية والتجنيس والمطابقة .
ثم توالت
الكتب والمؤلفات التي تحمل في ثناياها مادة بلاغية ضخمة أفاد منها الإمام عبد
القاهر والبلاغيون من بعده في إرساء قواعد البلاغة وبناء صرحها .
منها كتاب سر الفصاحة لابن سنان , وتلخيص
البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي , وإعجاز القرآن الباقلاني , والنكت في
إعجاز القرآن للرماني والعمدة لابن رشيق القيرواني وغير ذلك .
المرحلة
الثانية :مرحلة
نضج البلاغة واكتمالها
اكتمل صرح
البلاغة على يدي الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي وضع نظريتي علم المعاني وعلم
البيان في كتابيه دلائل الإنجاز وأسرار البلاغة .
فلعبد القاهر مكانة عظيمة في تاريخ البلاغة
حيث دوت شهرته في الآفاق وذلك لما امتاز به عن سابقيه بأنه جمع ما تفرق قبله
من علوم البلاغة, واستطاع بذكائه وثاقب نظره وضع قواعد البلاغة وبناء صرحها على
أساس متين من الأصول والقوانين التي استقرت بشكل متكامل وفي إطار شامل مدعماً ذلك
بالشواهد والأمثلة الكثيرة التي ساقها في بيان عذب وأسلوب بليغ، فلم يكتف عبد
القاهر في كتابيه بتعقيد القواعد وتقنينها , بل حرص مع ذلك على ضرب الأمثلة حتى
تتضح فنون البلاغة حق الوضوح وتتمثل في الأذهان خير تمثل .
فعبد
القاهر هو مؤسس البلاغة الذي وضع أصولها وأرسى قواعدها ولم يحدث بعده أي تغيير
يذكر في علم المعاني والبيان لأنه استطاع أن يستنبط من ملاحظات البلاغيين قبله كل
القواعد البلاغية فيهما .
ولقد فتن البلاغيون بعبد القاهر وعلمه الغزير
فراحوا يرددون كلامه ويقفون عنده ولا يتجاوزنه ، وأصبح لكتابيه مكانة مرموقة جعلت
كل من جاء بعده يعتمد عليها ويقتبس من مسائلها ويدور في فلكها لا يحيد عنها .
وعلى كل
يعد كتابا عبد القاهر كتابين عظيمين حيث أصبحت فنون البلاغة فيهما ذات كيان خاص ,
بعد أن كانت قبلها مبعثرة في كتب اللغة والأدب والنقد وإعجاز القرآن ، وقد ضمنهما
مؤلفهما علماً دقيقاً غزيراً ,بنى بهما للبلاغة صرحاً عالياً , وأصبح بسببهما
إماماً عظيماً .
ثم جاء
بعبد القاهر جارالله محمود بن عمر الزمخشري 538 الذي قام بدراسة ما كتبه عبدا
لقاهر في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة واستطاع أن يهضم ما فيهما , ويتمثلهما
خير تمثيل , وأن يطبق ذلك كله في كتابه الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في
وجوه التأويل ، الذي اهتم فيه بيان الأسرار البلاغية في القرآن , وبإظهار إعجازه
عن طريق بيان وفاء دلالته على المراد مع مراعاته مقتضيات الأحوال , ويكشف ما فيه
من خصائص التصوير ولطائف التعبير في البيان القرآني .
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يعد من كتب
التفسير فإنه يعد في الوقت ذاته من كتب البلاغة لأنه مليء بمسائلها ولطائفها .
المرحلة
الثالثة :
مرحلة التقنين والتعقيــــد :
تبدأ هذه
المرحلة بظهور أبي يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة 626هـ الذي اهتم بالفلسفة
والمنطق , فقام بتقنين قواعد البلاغة مستعيناً في ذلك بقدراته المنطقية على
التعليل والتعريف والتفريع والتقسيم ، وبذلك تحولت البلاغة على يديه إلى مجرد
قواعد وقوانين صيغت في قوالب منطقية جافة باعدت بينها وبين وظيفتها من إرهاف الحس وإمتاع
النفس وتربية الذوق وتنمية الملكات .
وقبل
السكاكي ظهر فخر الدين الرازي فهو من أوائل من اتجهوا إلى الاختصار والتخليص فهو
يعد مرحلة انتقالية , حيث اهتم بإدخال المنطق والفلسفة في علوم البلاغة , حيث قام
بتلخيص كتابي عبد القاهر في كتابه نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز .
وشهرة
السكاكي تعود إلى القسم الثالث من كتابه مفتاح العلوم الذي جعله لعلم المعاني وعلم
البيان وملحقاتها من الفصاحة والبلاغة ، والمحسنات اللفظية والمعنوية , وقد نال
هذا الكتاب شهرة فائقة في ميدان البلاغة حيث فتن به العلماء إلي حد جعلهم ينسون أنفسهم
وينكرون ملكاتهم , ولهذا ظلوا قروناً عديدة- ابتداء من القرن السابع الهجري والى
القرن الماضي - عاكفين على دراسته وشرحه وتلخيصه حتى لكأنه لم يؤلف في البلاغة
كتاباً غيره , فاستأثر باهتمامهم وعنايتهم, وقد أخذ رجال هذه المدرسة وعلماؤها
يعمدون في دراساتهم البلاغية على النظريات والتقسيمات والقواعد والتعريفات التي
أصبحنا نراها شائعة في مصنفاتهم من الشروخ والحواشي والتقارير ونحوها التي صنفت
على هدي كتاب السكاكي والقزويني .
فمن الذين
قاموا بشرح مفتاح العلوم للسكاكي عدد كبير من العلماء منهم قطب الدين الشيرازي 710هـ
في كتاب سماه مفتاح المفتاح ، ومظفر الخلخالي 745 هـ في كتابه شرح المفتاح ،
والسيد الشريف الجرجاني 816هـ وابن كمال باشا 940هـ ألف شرح المفتاح، وممن عنوا
بتلخيصه :
بدر الدين
مالك 668هـ أختصره في كتاب المصباح في المعاني والبيان والبديع , وجلال الدين محمد
بن عبد الرحمن القزويني 739هـ سماه تلخيص المفتاح , وعبد الرحمن الشيرازي 756هـ في
كتابه الفوائد الغياثية , ولعل أشهر هذه الشروح وأوسعها شهرة بين العلماء في
المشرق كتاب تلخيص المفتاح للقزويني , وهذا الكتاب بدوره حظي لدى العلماء باهتمام
بالغ فمنهم من شرحه ومن لخصه ، ومنهم من نظمه .
فممن شرحه بهاء الدين السبكي في كتابه عروس
الأفراح في شرج تلخيص المفتاح , وابن يعقوب المغربي 1110 في كتابه
مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح ، والخلخالي في كتابه مفتاح تلخيص المفتاح ،
وسعد الدين التفتازاني وضع له شرحين المختصر والمطول , وممن نظمه شعراً جلال
الدين السيوطي المتوفي سنة 911 هـ في كتابه عقود الجمان ، وعبد الرحمن
الأخضري سمي نظمه الجوهر المكنون في الثلاثة فنون ، وغيرهم كثير ، ولاتزال خزائن
الكتب والمخطوطات تضم في جنباتها عدداً كبيراً من الكتب التي دارت حول شرح مفتاح
العلوم أو حول كتاب التلخيص للقزويني .
فكل من جاء بعد السكاكي سار على نهجه ونسج
على منواله لأنها لاتخرج عن كونها ترديدا وتكراراً لمادته ، فهي محاولات قصد بها
الإيضاح والتبسيط عن طريق الإيجاز والتلخيص, وإذا هي من حيث لا يدري أصابها قد
زادت المفتاح صعوبة على صعوبة .
ولا شك أن هذه الشروح والتلخيصات والمنظومات
تدل على عناية أصحابها منذ عصر السكاكي وما بعده بالمناقشات العلمية والمماحكات
اللفظية دون العناية بتربية الذوق ففقدت البلاغة بذلك هدفها الرئيس .
وعلى أية
حال هذه الكتب التي صنفها العلماء أرادوا بها خدمة البلاغة والنقد إلا أنها عجزت
عن أن تعلم نقداً أو بلاغة , وهي بلا شك دالة على عناية أصحابها بمسائل العلم
وتوسيع القول فيه , وإن كانوا في الوقت نفسه عاجزين على القدرة على التجديد
والابتكار.
وإذا
أردنا أن نقارن ما كانت عليه البلاغة العربية في عصورها الزاهية وخاصة في عصر عبد
القاهر وبين ما صارت إليه في العصور المتأخرة نرى أن البلاغة قد ازدهرت
واكتمل صرحها وتوهجت شعلتها على أيدي علمائها الأوائل الذين قاموا بإحيائها وإرساء
معالمها , ثم نرى كيف جفت وذبلت وخبت شعلتها على أيدي علماء البلاغة المتأخرين على
يد السكاكي ومن سار على نهجه واحتذى حذوه .
وقد ظل
هذا حال البلاغة تزداد مع الأيام ضعفاً وبعدا عن هدفها المنشود حتى قيض لها من
علماء العرب في العصر الحديث من قام بإحيائها فأعاد للبلاغة وجهها الناصع الناضر.
مفھوم
البلاغة والفصاحة
مفھوم البلاغة
في اللغة
إن
المدلول اللغوي لمادة (بَلغَ) ینتھي في الغالب إلى أمرین: أولھما الوصول
والانتھاء، والآخر: الحسنوالجودة، وقد أورد صاحب اللسان من ذلك: " بلغ الشيء
یبلغ بلوغا وبلاغا وصل وانتھى، وأبلغه ھو
إبلاغا،ًوبلغَّه تبلیغا،ً ومنھا قول أبي قیس بن الأسلت السلمي:
قالت
ولم تقصد لقیل الخني *** مھلًا فقد
أبلغْتَ أسماعي
أي: قد انتھیت
فیه وأنعمت، وتبلغَّ بالشيء: وصل إلى
مراده، وبلغ مبلغ فلان ومبلغته ، وفي حدیث الاستسقاء: "واجعل ما أنزلت لنا
قوة وبلاغا إلى حین" والبلاغ ما یتُبَلغَّ بھا ویتُوصل به
إلى الشيءالمطلوب... وبلغتِ النخلة وغیرھا من الشجر: حان إدراكُ ثمرھا.
وشيٌء بالغ، أي جید، وقد بلغ في الجودةمبلغا.ً.. والبلاغة: الفصاحة، والبَلغْ
والبلِغْ: البلیغ من الرجال، ورجل بلیغ: حسن الكلام فصیحة یبلغ بعبارة(لسانه كْنَه
ما في قلبه ، والجمع بلُغَاء، وقد بلغُ بالضم بلاغة أي صار بلیغا)"ً.
كما
احتملت المادة في القرآن الكریم معني الإیجاز في قوله تعإلى:( ھَذا بَلاٌغ للِّنَّاسِ ولیِنُذَروا
بھِا [إبراھیم 52 ]، والإیضاح والفصاحة والبیان في قولھ تعإلى : (ھْل علىَ
الُّرُسِل إلَّا البَلاُغ الُمبیِن). التغابن 12 ، والتأثیر في نفوس المخاطبین في
قولھ تعإلى: (وقلُ لھَّمُ فيِ أنَفسُھْم قَوْلًا بَلیِغا) [النساء 63
مفھوم البلاغة
في الاصطلاح
أما
مصطلح البلاغة فقد استمد مفھومھا الفني من
ذلك الاستعمال اللغوي، وقد مر خلال رحلته
في تاریخ العلم بأطوار ثلاثة أخذت تتعاوره من العموم إلى الخصوص حتى
استبانت لھا حقولھا ورسمت حدوده على یدالإمام السكاكي (ت 626 ھ) ولاحقیه .
الطور
الأول: ویمكن تسمیته بطور المفھوم الفني
العام حیث كان مصطلح البلاغة یطلق على كل ما من شأنھا توصیل المعنى والانتھاء بھا
إلى المتلقي.
وقد
حوت المصادر البلاغیة جملة وافرة من تعریفات البلاغة التي تجري على ھذا النحو ،
منھا مایعني بتفسیر وظیفتھا كقول على بن أبي طالب (ت 40 ھ) "البلاغة إفصاح
قول عن حكمة مستغلقة، وإبانةعن شكل"، وقول الحسن بن على(ت 42 ھ)
"البلاغة: إیضاح الملتبسات وكشف عوار الجھالات بأسھل مایمكن من
العبارات"، وقوله أیضا:ً
"البلاغة تقریب بعید الحكمة بأسھل العبارة"، أو قول محمد بن على([ (ت
125 ھ): "البلاغة قول مْفقَه في
لطُف."
ومنھا
ما یتعلق بغایات عقدیة أو جدلیة كقول ابن المقفع (ت 134 ھ)" البلاغة: كشف ما
غمض من الحق، وتصویر الحق في صورة الباطل ([ 3])، كما فسرھا عمرو بن عبید (ت 123 )
في مقاولة بینه وبین آخر بقوله :"
كأنك إنما ترید تخیر اللفظ في حسن إفھام" ثم قال " إنك إذا أوتیت تقریر
حجة لله في عقولالمكلفین، وتخفیف المئونة على المستمعین، وتزیین تلك المعاني في
قلوب المریدین بالألفاظ المستحسنة في الآذان، المقبولة عند الأذھان رغبة في سرعة استجابتھم،
ونفي الشواغل عن قلوبھم بالموعظة الحسنة على(الكتاب والسنة، كنت قد أوتیت فصل
الخطاب، واستحققت على الله جزیل الثواب". )
ومن
ھذه التعریفات ما یبرز الجوانب الأسلوبیة في الكلام على مستوي الإفراد أو
التراكیب، من ذلك ما أجاب به صُحار بن
عباس العبدي (ت 40 ھ) حین سأله
معاویة:" ما تعدون البلاغة فیكم؟ قال: الإیجاز.
(قال له : وما
الإیجاز؟ قال صُحار: أن تجیب فلا تبطىء، وتقول فلا تخطىء".([ 5
أو
قول ابن المقفع (ت 134 ھ): "البلاغة اسم جامع لمعاٍن في وجوه كثیرة، فمنھا ما
یكون في السكوت، ومنھا ما یكون في الاستماع، ومنھا ما یكون في الإشارة، ومنھا ما
یكون جوابا،ً ومنھا ما یكون سجعا وخطبا،ً ومنھا ما یكون في رسائل، فعامة ما یكون
من ھذه الأبواب الوحي فیھا والإشارة إلى المعني،([ والإیجاز ھو البلاغة" ([ 6
وینقل
ابن المدبر عن الخلیل بن أحمد (ت 170 ھ) في ذلك قوله : "كل ما أدي إلى قضاء
الحاجة فھوبلاغة، فإن استطعت أن یكون لفظك لمعناك طبقا،ً ولتلك الحال وفقا،ً وآخر
كلامك لأوله مشابھا،ً ومواردهل مصادره
موازنا فافعل، واحرص على أن تكون لكلامك مَّتِھما وإن طُرف، ولنظامك مستریبا وإن([
لطُف،بمواتاة آلتك لك، وتصرف إرادتك معك". (7
أما الطور
الثاني: فیتضح بدخول مصطلح (البلاغة) حیز التألیف، واختیاره عنوانا
لبعض الرسائل أوالكتب، وذلك لا یعنى بوجه
من الوجوه دخول مصطلح البلاغة إلى حیز اختصاصھا بمعارف معینھا على نحو مانراه في طوره الأخیر،
حیث ظلت موضوعات البلاغة حتي ذلك العھد تتعاورھا على غیر ترتیب اتجاھات متعددة في
تفسیر القرآن وشروح الشعر كما تعاورھا مصطلح (البیان) عند الجاحظ حینا،ً ومصطلح
(البدیع) عندابن المعتز وغیره حینا آخر.
وقد حاول ابن
وھب الكاتب (ت 272 ھ) أن یعرف البلاغة على نحو یخالف الجاحظ (ت 255
ھ)فقال"وقد ذكر الناس البلاغة ووصفوھا بأوصاف لم تشتمل على حدھا، وذكر الجاحظ
كثیرا مما وصفت به ،وكل وصف منھا یقصر عن الإحاطة بحدھا" ثم قال " وحدھا
عندنا: " القول المحیط بالمعنى المقصود، معاختیار الكلام وحسن النظام وفصاحة
اللسان" وإنما أضیف إلى الإحاطة بالمعنى اختیار الكلام؛ لأن العامي قد یحیط
قوله بمعناه الذي یریده، إلا أنه كلام مرذول من كلام أمثالھا ، فلا یكون موصوفا
بالبلاغة، وزدنافصاحة اللسان، لأن الأعجمي واللحَّان قد یبلغان مرادھما بقولھما
فلا یكونان موصوفین بالبلاغة، وزدناحسن النظام؛ لأنه قد یتكلم الفصیح بالكلام الأتي على المعنى، ولا
یحسن ترتیب ألفاظه ، وتصییر كل واحدة([ منھا مع ما یشاكلھا، ولا یقع ذلك موقعه
..".([ 8وكان لمحمد بن یزید المبرد (ت 285 ھ) في ذلك رسالة صغیرة سماھا
(البلاغة) أجاب فیھا عن مسألةأحمد بن الوثق: أي البلاغتین أبلغ: أبلاغة الشعر أم
بلاغة النثر؟ فقال المبرد:"إن حق البلاغة إحاطة القول بالمعني، واختیار
الكلام، وحسن النظم، حتى تكون الكلمة مقاربة أختھا،ومعاضدة شكلھا، وأن یقرب بھا
البعید، ویحذف منھا الفضول. فإن استوي ھذا في الكلام المنثور والكلام المرصوف،
المسمي شعرا،ً فلم یفضل أحد القسمین صاحبھا ، فصاحب الكلام المرصوف أحمد،
لأنه أتيبمثل ما أتي بھا صاحبھا ، وزاد وزنا وقافیة، والوزن یحمل على
الضرورة، والقافیة تضُّطر إلى الحیلة،وبقیت بینھما واحدة، لیست مما توجد عند
استماع الكلام منھما، ولكن یرجع إليهما عند قولھما، فینظر أیھما([ أشد علي الكلام
اقتدارا،ً وأكثر تسُّمحا،ً وأقل معاناة، وأبطأ معاسرة، فیعلم أنه المقدَّم".([ 9
وإذا
كان مصطلح البلاغة في ھذه الرسالة لا یعني العلم المعروف، فبوسعنا القول إن المبرد
كان أول.([ من أطلق (البلاغة) علي بعض رسائله ([ 10
أما الرماني أبو
الحسن على بن عیسي (ت 386 ھ) فقد كانت البلاغة عنده ھي " إیصال المعنى إلى
القلب في أحسن صورة من اللفظ" وجعلھا في ثلاث طبقات، منھا ما ھو في أعلى
طبقة، ومنھا ما ھو فيأدني طبقة، ومنھا ما ھو في الوسائط بین أعلى طبقة وأدني طبقة،
فما كان في أعلاھا طبقة فھو معجز، وھوبلاغة القرآن، وما كان منھا دون ذلك فھو
ممكن، كبلاغة البلغاء من الناس، وقَّسمھا إلى عشرة أقسام:
([ الإیجاز
والتشبیه والاستعارة والتلاؤم والفواصل
والتجانس والتضمین والمبالغة وحسن البیان".( 11
ویتلاقي
مصطلح ( الفصاحة) مع ( البدیع) و(البیان) في الدلالة على مفھوم (البلاغة) حیث یري
أبوھلال العسكري (ت 395 ھ) أنھا سمیت بلاغة" لأنھا تنُھي المعنى إلى قلب
السامع فی فھمھا " كما أبدى رأیهفي تعریفھا وَحَّدھا بقوله "البلاغة كل
ما تبلغ بھا قلب السامع فتمُكنھا في نفسه
كتمُّكنھا في نفسك، مع صورةمقبولة
وَمْعَرض حسن"، وھو إذ ذاك لا یفرق بین مصطلح (البلاغة) ومصطلح (الفصاحة):
" فأما الفصاحة فقد قال قوم إنھا من قولھم: أفصح
فلان عما في نفسه إذا أظھره، والشاھد على
أنھا ھي الإظھار قول العرب:
أفصح
الصبح إذا أضاء... وإذا كان الأمر على ھذا، فالفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى
واحد، وإن([ اختلف أصلاھما؛ لأن كل واحد منھما ھو الإبانة عن المعني والإظھار له
".([ 12
وممن ذھب ذلك
المذھب، الإمام عبد القاھر الجرحاني (ت 476 ھ) في كتابیه (دلائل الإعجاز)
و(أسرار
البلاغة، فلا نجده یفرق بین البلاغة أو البیان أو الفصاحة، ورأى أنھا تأتي عندھم
مترادفة یعُّبر([ بھا " عن فضل بعض القائلین على بعض..."([ 13
وعبد القاھر
یدرك ذلك ولكنه لحظ أن ھذه الألفاظ تجري
على ألسنة بعض المعتزلة وصفا للفظ دون المعني، فأخذ یحقق القول في ارتباط البلاغة
والفصاحة والبیان بالمعني واللفظ معا في إطار عرضه لنظریة النظم على نحو سیتضح لك
فیما بعد.
أما ابن سنان
الخفاجي (ت 466 ھ) فقد رأي أن (الفصاحة) شطر (البلاغة) وأحد جزئیھا، فھي ترتبط بھا
ارتباط الخاص بالعام، وذھب إلى أن " الفرق بین الفصاحة والبلاغة، أن الفصاحة
مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني. لا یقال
في كلمة واحدة لا تدل على معنى یفضل عن مثلھا بلیغة، وإن قیل فیھا إنھا فصیحة، وكل
كلام بلیغ فصیح، ولیس كل فصیح بلیغا،ً كالذي یقع ([
فیه الإسھاب في غیر موضعه ". ([ 14
أما
الطور الثالث من حیاة مصطلح (البلاغة) فیتصل بسبب إلى الإمام أبي یعقوب السكاكي (ت 626 ھ) الذي أخلص القسم الثالث من كتابه
(مفتاح العلوم) لعلمي المعاني والبیان، ثم عَّرف البلاغةبقوله " ھي بلوغ
المتكلم في تأدیة المعاني حدا لھ اختصاص بتوفیة خواص التراكیب حقھا، وإیراد أنواع
التشبیه والمجاز والكنایة علي
وجھھا".
وھو
بھذا یدخل مباحث علم المعاني وعلم البیان في صلب البلاغة، أما مباحث البدیع فقد
جعلھا السكاكي وجوھا یؤتي بھا لتحسین الكلام ولیست من مرجعي البلاغة.
وقد رأى أن للبلاغة طرفین" أعلى وأسفل متباینان تباینا لا یتراءى لھا نارھما،
وبینھما مراتب تكاد تفوت الحصر متفاوتة، فمن الأسفل تبتدئ البلاغة، وھو القدر الذي
إذا نقص منھا شيء التحق ذلك الكلام بما شبھناه في صدر الكتاب من أصوات الحیوانات،
ثم تأخذ في التزاید متصاعدة إلى أن تبلغ حد الإعجاز، وھو الطرف الأعلى وما یقرب([
منھا ".([ 15
ثم ینتھي ذلك
الطور إلى ابن الناظم، بدر الدین بن مالك (ت 686 ھ) في كتابه (المصباح) الذي سارفیه علي مذھب السكاكي، في تعریف البلاغة، وتحدید
حقولھا، ومباحثھا، فجعل كتابه ثلاثة
أقسام:
الأول: یعرف
منھا الاحتراز عن الخطأ في كیفیة التراكیب، في الإفادة لتمام المراد من المعنى،
وفي دلالة المركب على قید من قیودھا ([ 16 ]) وھو علم المعاني.
الثاني: یعرف
منھا الاحتراز عن الخطأ في التركیب مما دلالته
غیر وافیة بتمام المراد من وضوح الدلالة أو خفائھا، وھو علم البیان.
الثالث: تعرف
منھا توابع البلاغة من طرق الفصاحة وھو علم البدیع ([ 17 ]) وبالرغم من وضوح ھذه البدیھة
في حساب التاریخ، فإن كثیرا من مؤرخي البلاغة ینسبونھا إلى الخطیب القزویني (ت 739
ھ)،
ویبدو
أن لشھرتھا أثرا في طمس ھذه الحقیقة بعد ما ذاع صیت كتابه (تلخیص المفتاح) الذي ملأ الدنیاوشغل الناس،
فعكفوا على دراسته ، وشرحه شروحا كثیرة؛
حتي انتھي إلیھا تعریف البلاغة وتحدید
علومھاومباحثھا.
وقد مَّیز
القزویني بین بلاغة الكلام وبلاغة المتكلم، وذھب إلى أن "بلاغة الكلام ھي
مطابقتھا لمقتضى الحال مع فصاحتھا، ومقتضي الحال مختلف، فإن مقامات الكلام
متفاوتة، فمقام التنكیر یباین مقام التعریف،ومقام الإطلاق یباین مقام التقیید،
ومقام التقدیم یباین مقام التأخیر، ومقام الذكر یباین مقام الحذف، ومقام القصر
یباین مقام خلافھا، ومقام الفصل یباین مقام الوصل، ومقام الإیجاز یباین مقام
الإطناب والمساواة،وكذا خطاب الذكي یباین خطاب الغبي، وكذا لكل كلمة مع صاحبتھا
مقام... أما بلاغة المتكلم فھي ملكة یقتدر([ بھا على تألیف كلام بلیغ".([ 18
وبناء على
فھمه لمھمة البلاغة وتفرقته بینھا وبین الفصاحة،أخذ القزویني یقسم البلاغة
إلى علوم ثلاثة یختص كل منھا بمھمة ومباحث تؤدیھا؛ لأن "البلاغة في الكلام
مرجعھا إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدیة المعني المراد، وإلى تمییز الكلام الفصیح
من غیره، والثاني – أعني التمییز منه ما
یتبین في علم متن اللغة، أو التصریف، أو النحو، أو یدرك بالحس، وھو ما عدا التعقید
المعنوي.
- وما یحُترز
بھا عن الأول - أعني الخطأ في تأدیة المعني المراد - ھو علم المعاني.
- وما یحُترز
بھا عن الثاني- أعني التعقید المعنوي - ھو علم البیان.
- وما یعُرف بھا
وجوه تحسین الكلام - بعد رعایة تطبیقھا على مقتضى الحال وفصاحتھا - ھو علم البدیع.
وكثیر من الناس
یسمي الجمیع (علم البیان)، وبعضھم یسمي الأول (علم المعاني). والثاني والثالث([
(علم البیان)، وبعضھم یسمي الثلاثة (علم البدیع).([ 19
وأیاًّ ما كان
الأمر فقد انتھي الطور الأخیر من حیاة مصطلح (البلاغة) بمفھومھا العلمي وحقولھا المعرفیة المحددة إلى ما آل إلیھا عند الخطیب القزویني، بل ظل
ھذا النھج یھیمن على درس البلاغة،ویواكب تداول الأیام والقرون حتى عصرنا الحاضر!
كما تتھَّیأ لنا
غایة البلاغة، وندرك ثمرتھِا؛ حین نعرف أن الوعي بوسائل البلاغة وصور البیان
یحُققِّ لصاحبھا غایتین اثنتین:
الغایة
الأولى دینیة: تكمن في التعُّرف على أسرار الإعجاز القرآني "من جھة ما یختصُّ
بھا – لما یقول أبو ھلال العسكري – من حسن التألیف، وبراعة التراكیب، وما
شحنھا بھا من الإیجاز البدیع، والاختصاراللطیف. وضمنھا من
الحلاوة، وجللَّھا من رونق الطلاوة، مع سھولة كلمھا وجزالتھا وعذوبتھا وسلاستھا،
إلى([ غیر ذلك من محاسنھا التي عجز الخلق عنھا، وتحیَّرت عقولھم فیھا".([ 20
أما
الغایة الأخرى فھي غایة أدبیة نقدیة: تجعل مْن تكونتْ فیھ ملكَة الإبداع یؤُثرِ
سلامة التعبیر وحسن الصیاغة، ویتجنب الوقوع في دائرة الخلط والغموض. كما تمنح
متذوق الأدب ونقادَه مقدرًة على التمییز بین الجید والردئ من نصوصھا، ومعیارا
یقیسون بھا مدى حسنھا وقبحھا.
وقد
عنىِ أبو ھلال العسكري (ت 395 ھ) أیضا بھِذه الغایة، فقال في مقدمة كتابه :
"ولھذا العلم بعد ذلك فضائل مشھورة، ومناقب معروفة، منھا: أن صاحب العربیة
إذا أخَّل بطلبھا، وفَّرط في التماسھا، ففاتته فضیلتھا، وَعلقِتْ بھا رذیلُة فوته
، عفى على جمیع محاسنھا، وعَّمى سائر فضائلھا؛ لأنھا إذا لم یفِّرق بین كلام جید
وآخر ردىء، ولفظ حسن وآخر قبیح، وشعر نادر وآخر بارد، بان جھلھا، وظھر نقصھا. وھو
أیضا إذا أراد أن یصنع قصیدًة أو ینشيء رسالة، وقد فاته ھذا العلم مزج الصفوَ بالكدر، وخلط الغرر
بالعرر (القذر)واستعمل الوحشى العَكر، فجعل نفسه
مْھَزأةً للجاھل، وعبرة للعاقل... وإذا أراد أیضا تصنیف كلام منشور،أو تإلف
شعر منظوم، وتخَّطى ھذا العلمَ، ساء اختیاُره لھا، وقبحت آثاُره فیھا، فأخذ الردىء
المرذوَل، وترك . ([ 21 الجید المقبول،
فدَّل على قصور فھمه ، وتأُّخر معرفتٍه وعلمه البلاغة وشروط الفصاحة اعتاد البلاغیون أن یقدَّموا بین یَدَى بحثھم بمِقدمة یعُنون
فیھا بالوقوف على تعریف علمھم وتحدید مباحثه
وبیان الغرض منه ، ولم یكن البلاغیون بدعا في ذلك، بل ھو شيء تقتضیه بدائه
العقل، ومناھج البحث في كل العلوم؛ وجریا على
ھذه السنة الحسنة فإننا نجمل لك القول إجمالًا في تعریف الفصاحة والبلاعة، والفرق
بینھما، ومقاییس الفصاحة في الكلمة والكلام، وحدود كل علم من علوم البلاغة. وقد
وردت كلمة الفصاحة في اللغة بمعاٍن متعددة، كلھا تنبئ عن الظھور والبیان، وجاء على
ذلك قول العرب: أفَصَح اللبَّن، أي: انجلت عنھا رْغوتھُا فظھر. قال الشاعر:
وتحت الرِّغَوة
اللبَّن الفصیحُ وتقول: سَرینا حتى أفصح الصبُح، أي: بدا ضوءه، ومنھا المثل
المشھور: أفصح الصبُح لذي عینین، ویقال: فَصُح الأعجمي وأفصح؛ إذا خلصت لغته من اللكُّنة واللحن، وانطلق لسانه بالعربیة، ویجرى على ذلك قوله تعالى(َوأخَي ھاُروُن ھَو أفَصَح منيِّ
لسِانًا) [القصص: 34 ] أي: أبین مني قولًا، والفصیح في اللغة: المنطلق اللسان في
القول، الذي یعرف جید الكلام من ردیئه ، فھو طلقْ اللسان یكشف عن معانیه ،.(
ویعُبِّر عن مشاعره بلفظ فصیح( 1
أما
البلاغة في اللغة فھي مصدر للفعل بلغ، وتنبئ في مجمل معانیھا عن الوصول والانتھاء،
قال صاحب اللسان: بَلغَ الشيء یبلغ بلوغا وبلاغا:ً وصل وانتھي،
وأبلغَه ھو إبلاغا وتبلیغا،ً قال أبو قیس
الَأسلتَ الُّسلمَي:
مھلًا
فقد أبلغْتَ أسماعي *** قالْت ولم تقصد
لقیل الخنا
أي: قد انتھیت
وأنعمتَ. ویقال: بلغُ - بضم اللام - بلاغة: إذا أتى بكلام بلیغ مؤثرّ یصل إلى
أعماق.( النفس، فسمیت البلاغة بلاغة؛ لَأنھا تنھي المعنى إلى قلب السامع فیفھمه (
2
ولعلك تلحظ أن
الفصاحة والبلاغة یترادفان في المفھوم الاصطلاحي في الإبانة عن المعنى وإظھاره،وذلك
على الرغم من اختلاف أصلھما اللغوي الذي ترجعان إلیه .
وقد درجت طائفة
من البلاغیین على ذلك؛ حیث رأینا عبد القاھر الجرجانى یعقد فصلًا " في تحقیق
القول على البلاغة والفصاحة والبیان والبراعة، وكل ما شاكل ذلك من ألفاظ "
یذھب فیھا إلى أنھا " لا معنى لھذه العبارات وسائر ما یجرى مجراھا – مما
یفُرد فیھ اللفظ بالنعت والصفة، وینُسب فیھا الفضل والمزَّیُة إليه دون المعنى –
غیُر وصف الكلام بُحسن الدلالة وتمامھا فیما كانت له دلالةً، ثم تَبُّرجھا في صورة ھي أبْھي وأزیُن
وآنُق وأعجبُ وأحُّق بأن تستولي على ھوى النفس، وتنال الحَّظ الأوفر من میل القلوب
… ولاجھة لاستعمال ھذه الخصال غیُر أن تأتي المعنى من الجھة التي ھي أصُّح لتأدیته
، وتختاَر له اللفظ الذي ھو .( أخصُّ بھا، وأكشفُ عنھا وأتُّم لھا، وأحرى
بأن یكسبھا نبُلًا ویظُھر فیھ مِزَّیًة " (22
فالفصاحة
والبلاغة كما رأیت یترادفان في الدلالة على مفھوم واحد عند عبد القاھر الجرجانى،
ومن ذھب مذھبھا كالزمخشرى والفخر الرازى.
وثمة
طائفة أخرى أخذت تفُّرق بین الفصاحة والبلاغة في الاصطلاح؛ تبعا لاختلاف مدلولھما اللغوي، وقد نقل إلینا أبو ھلال العسكرى من ذلك قوَل بعض
علمائنا: إن الفصاحة تمام آلة البیان " فعلى ھذا تكون الفصاحة والبلاغة
مختلفتین، وذلك أن الفصاحة تمام آلة البیان، فھي مقصورة على اللفظ، لأن الآلة ([
تتعلق باللفظ دون المعنى، والبلاغة إنما ھي إنْھاء المعنى إلى القلب فكأنَّھا
مقصورة على المعنى " ([ 23
ومما یقرب من
ھذا المذھب ما ارتآه ابن سنان الخفاجي (ت 466 ھ) في الفرق بین الفصاحة والبلاغة من
" أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع
المعاني. لا یقال فيكلمة واحدة لا تدل على معنى یفضل عن مثلھا بلیغة، وإن قیل فیھا
إنھا فصیحة. وكل كلام بلیغ فصیح، .([ ولیس كل فصیح بلیغا،ً كالذي یقع فیھا الإسھاب
في غیر موضعه " ([ 24
وإن
كان ما ذكره ابن سنان صحیحا في مرجع البلاغة، فقد جاوز حَّد الصحة في موصوف
الفصاحة لأنھا لیست مقصورة على وصف
الألفاظ المفردة فقط، ولكنھا تكون وصفا للتركیب كذلك. وإذا أمعنتَ النظر في كلامه السابق فسوف تلتمس الدلیل على ذلك المأخذ.
نخلص
من ذلك إلى أن الفصاحة والبلاغة مختلفتان؛ لأن الفصاحة تقع وصفا للكلمة المفردة،
وللكلام المؤلفَّ، وللمتكلمِّ، أما البلاغة فلا تكون إلا وصفا للكلام المؤلفَّ
وللمتكلمِّ، ثم آل تعریف البلاغة عند المتأخرین إلى أنَّھا مطابقة الكلام لمقتضى
الحال مع فصاحته ، ومن أجل ذلك اعتبروا الحدیث عن فصاحة الكلمة والكلام مقدمة
أولیة للحدیث عن البلاغة.
وقد
اشترط البلاغیون لفصاحة الكلمة والكلام شروطا بعضھا یرجع إلى ذوق المتلقیِّن في
استعمال اللغة، ویرجع بعضھا الآخر إلى قواعد ثابتة في نحو اللغة وصرفھا.
فصاحة الكلمة:
وقد
أرجعھا علماء البلاغة ([ 25 ]) إلى سلامة الكلمة المفردة من عیوب ثلاثة ھي:
( أ ) تنافر
الحروف:
وھو وصف في
الكلمة یوُجب ثقلھا على اللسان، وصعوبة النطق بھا، ویرجع ذلك إلى تقاُرب حروف
الكلمة في المخرج؛ لأنھ بمِنزلة مشي المقیَّد، وربما یعود التنافر الذي یسُلم إلى
صعوبة نطق الكلمة إلى تباعد حروف الكلمة في المخرج، فیكون الانتقال من حرف إلى أخر
بمثابة الطفرة. كما روي أن ( أعرابیا سئل عن ناقته، فقال: " تركتھا ترعى
الھعُخَع" .
وأیاًّ
ما كان معنى الكلمة فھي متناھیة في التنافر والثقل؛ لتقارب حروفھا في المخرج:
فالھاء والعین والخاء كلھا حروف حلقیة، أي: خارجة من مخرج واحد وھو الحلق، مما
یؤدى إلى صعوبة النطق بھا.
ویجرى على ذلك
إلا أنھا أخف منھ في الثقل لفظة ( مستشزرات ) في قول امرئ القیس:
وفرٍع
یزین المتن أسوَد فاحم *** أثیثٍ كقنِو
النخلیة المتُعْثِكل
تضل الَمَداري
في مثُنى ومرُسِل( 2) غدائُره مسُتشْزَراتٌ إلى الُعلا فأنت تجد في كلمة
(مستشزرات) تنافرا یحسھا السمع، ویثقل على اللسان النطق بھا، ومبعث ذلك من توسط
الشین المھموسة الرخوة بین التاء المھموسة الشدیدة، والزاي المجھورة، وھي حروف
لسانیة متقاربةالمخرج.
وقد
یكون طول الكلمة سببا في ثقل النطق بھا، ومما استدلوا بھا على ذلك لفظ (سویداوتھا)
في قولالمتنبي:
إن
الكریَم بلا كرامٍ منھمُ *** مثلُ القلوب بلا
سُویَداواتھِا
حیث خرجت الكلمة
عن حِّد الاعتدال المعھود في الاستعمال؛ لأن الذوق العربى یمیل إلى استعمال اللفظ
قلیل الحروف، ویستثقل اللفظ الطویل وینفر منھا، وبذلك خرجت لفظة (سویداوتھا) عن
حِّد الفصاحة لطولھا وكثرة حروفھا.
ونحن
لا ننكر أن یكون لمخارج الحروف وھیئة تألیفھا أثٌر في مذاقة الكلمة من حیث خفتھا
وثقلھا على اللسان، غیر أن ذلك لا یجرى على معیار معروف وقاعدة مَّطردة؛ فقد تكون
الكلمة فصیحة مع قرب مخارج حروفھا، وقد تكون غیر فصیحة عِسرًة على اللسان مع بعُد
مخارج حروفھا.
إن
الحكم بُحْسن ما یحسن من الألفاظ وقبُح ما یقبح برجع في ھذا المقام إلى حاَّسة
السمع، وعللَّ ابن الأثیر (ت 637 ھ) لذلك بأنه
" قد یجىء في المتقارب المخارج ما ھو حسن رائق. ألا ترى أن الجیم
والشین والیاء مخارج متقاربة، وھي من وسط اللسان بینھا وبین الحنك، وتسَّمى
ثلاثتھُا (الشجریة) وإذا ترَّكب منھا شيٌء من الألفاظ جاء حسنا؛ً فإن قیل: (َجْیش)
كانت لفظة محمودة، أو قِّدمت الشیُن على الجیم؛فقیل (َشجي) كانت أیضا لفظة محمودة،
ومما ھو أقرب مخرجا من ذلك: الباء والمیم والفاء، وثلاثتھا من الَّشَفة، وتسَّمى
(الشفھیة) فإذا نظُم منھا شيٌء من الألفاظ كان جمیلًا حسنا،ً كقولنا ( فم ) فھذه
اللفظة من حرفین ھما: الفاء والمیم، وكقولنا ( ذقتھُا بفمي ) وھذه اللفظة مؤلفَّة
من الثلاثة بجملتھا، وكلاھما حَسٌن لاعیب فیه . وقد ورد من المتباعد المخارج شٌئ
قبیح أیضا،ً ولو كان التباعد سببا للحسن لما كان سببا للقبح؛ إذ
ھما ضدان لا یجتمعان، فمن ذلك أنه یقال (
ملعَ) إذا عدا؛ فالمیم من الشفة، والعین من حروف الحلق، واللام من وسط اللسان،
وكُّل ذلك متباعد، ومع ھذا فإن ھذه اللفظة مكروھة الاستعمال ینبو عنھا الذوق
السلیم، ولا یستعملھا مْن عنده معرفٌة بفن الفصاحة، وھا ھنا نكتة غربیة، وھو أناَّ
إذا عكسنا حروف ھذه([ اللفظة صارت (َعلمِ) وعند ذلك تكون حسنة لا مزید على حسنھا !
ولذلك
نرى أن المعَّول علیھا ھا ھنا ھو الذوق العربي السلیم المكتسب بالنظر في كلام
العرب وتذوق أسالیبھم، فما یعده الذوق السلیم ثقیلًا عسر النطق فھو المتنافر، وما
كان خفیفا على اللسان لا ینفر منه السمع، ولا ینبو عنه الطبع فھو الفصیح، سواء أكان ذلك من قرب مخارج
الحروف، أم من بعدھا، أم من غیر ذلك.
وقد یكون الثقل
في نطق بعض الكلمات من أھم خصائص فصاحتھا عن المعني المراد في سیاقھا، وانتھت بعض
الدارسات الحدیثة ([ 28 ]) في ذلك إلى أن كثیرا من الكلمات التي ربما تبدو متنافرة
الأصوات قد تكون ضروریة في السیاق، وأنھا بجرسھا وأصواتھا التي تألفت منھا تعطي من
الدلالات والإیحاءات ما لا یغُنى فیھا غیرھا.
وآیة
ذلك ما ورد في القرآن الكریم من قولھ تعالى ( یاأیَّھا الذَّیَن آمَنوُا ما لكَم
إذِا قیِل لكَم انفرِوا فيِ سَبیِل لَّله اثَّاقَلتْمُ إلِىَ
الَأرضِ أرَضِیتمُ باِلحْیاةِ الدُّنیَا مْن الْآِخَرِة فَما مَتاُع الحْیاةِ
الدُّنیَا فيِ الْآِخَرِة إلِّا قَلیِلٌ)[التوبة: 38 ] فربما أحسَّ القارئ بأن في
كلمة (اثاقلتم) ثقلًا عند النطق بھا، لكنھا الثقل الفصیح الذي يتجاوب مع السياق و
الغرض المراد فالله سبحانه یصف تقاعسھم
وتثاقلھم وخلودھم إلى الأرض ونفورھم ، من الجھاد الذي دعوا إليه في عام العسرة، ومن ھنا جاء التھدید الشدید
المواجه لتخاذل أرواحھم في قول لله تعالى
(إلِا تَنفرِوا یعُذْبُكْم عَذابًا إليما وَیْسَتبْدِل قَوْما غْیَرُكْم وَلا
تَضُّروه شْیئًا وَلَّله علىَ كلِّ شْيٍء قَدِیٌر).[ [الآیة: 39
وفي
قوله تعالى (قال یا قوم أرأیتم إن كنت على
بینة من ربى وأتاني رحمة من عنده فعمیت علیكم أنلزمكموھا وأنتم لھا كارھون) [ھود:
28 ]. نجد في كلمة (أنلزمكموھا) صعوبًة وثقلًا في النطق، ولكنه الثقل الفصیح الذي
یتناغم مع سیاق الكلام، ویحاكى صعوبة التزامھم بالآیات، وھم كارھون لھا.
ولعلنا
ندرك كذلك التجاوبَ بین بنیة الكلمة وثقلھا، وما ترسمه من ظلال دلإلة في سیاقھا، بحیث لورحنا نستبدلھا
بغیرھا لھوى الكلام بذلك عن مرتبة الفصاحة والبلاغة.
اقرأ معي
قوله تعالى (والذین كفروا لھم نار جھنم لا
یقضي علیھم فیموتوا ولا یخفف عنھم من عذابھا كذلك نجزى كل كفور وھم یصطرخون فیھا
ربنا أخرجنا نعمل صالحا غیر الذي كنا نعمل) [فاطر:.[36،37
استمع
إلى كلمة (یصطرخون) في الآیة " فیخیلِّ إليك جرُسھا الغلیظ غلَظ الصراخ
المختلط المتجاوب من كل مكان، المنبعث من حناجر مكتظة بالأصوات الخشنة، كما تلقي
إليك ظل الإھمال لھذا الاصطراخ الذي لا یجد من یھتم به أو یلبیه ، وتلمح من وراء ذلك كله صورة ذلك العذاب الغلیظ الذي ھم فیه([ یصطرخون
" ([ 29
ونحن
إذا احتكمنا إلى ذلك المقیاس في كلمة (مستشزرات) الواردة في معلقة أمرئ القیس، نجد
أنھا قد عبرت عن المعنى الذي یریده الشاعر ([ 30 ])، فھو یصف شعرھا بكثرته وتداخله
وتشابكه ، ولذلك عمد إلى كلمة فیھا ھذا التداخل والتشابك، وھي مستشزرات التي
تداخلت أصوات حروفھا وكاد صوت التاء والشین یختفي بین صوتي الزاي والسین، فھي لذلك
أكثر ملاءمة للمقام الذي وردت فیه من
بدیلتھا (مرتفعات ) أو (مستشرفات) المقترحة؛ لأن صورتھا توحي بصورة الَّشْعر الذي
یصفه الشاعر، وبخاصة بعد
قوله ( أثیث كقنو النخلة المتعثكل )
والسیاق یستدعي لذلك كلمة ( مستشزرات ) ویلح علیھا؛ لتحاكي بصورتھا وأصواتھا
المعنى المراد في وصفه .
(ب) الغرابة:
أما
الشرط الثانى من الشروط المخلةَّ بفصاحة الكلمة فھو الغرابة، وھم یعنون بھِا أن
تكون الكلمة وحشیة غیر ظاھرة المعنى. ولا مأنوسة الاستعمال عند العرب الُخلصَّ،
ویفُھم من ھذا أن العرب المحدثین،وغیرھم من المولدَّین الذین ظھروا بعد تفشِّي
اللحن وشیوع الخطأ في اللغة، وضعف الملكات اللغویة لا یعَّول علیھم في الحكم على
الكلمة بالغرابة.
وقد
أرجع العلماء غرابة الكلمة إلى سببین، أولھما: أن تكون الكلمة بحیث یحُتاج في
معرفة معناھا إلى بحث وتنقیر في كتب اللغة، واستدلوا على ذلك بما روي عن عیسى بن
عمر النحوي، حینما سقط عن حماره، فاجتمع علیه الناس، فقال لھَم: "ما لكم تكأكأتم علَّى
تكأُكَؤُكم على ذى جَّنة ؟! افرنقعوا عنى".([31])
وربما
عمد ھذا النحوي عمدا إلى ھذا الإغراب؛ لكي یَشَغلھَم بھا على سبیل المزاح
والمداعبة؛ حتى ینھض من عثرته ، ویفلت من بین أیدیھم، ولذلك قال بعضھم: دَعوه فإن
شیطانه یتكلم بالھِندیة، وھذا دلیل على ما
في الكلمتین من غرابة، تحتاج للكشف عن المراد منھا إلى مراجعة كتب اللغة المعنیة
بھِذا الأمر. ومن ذلك كلمة (ابتشاك) في قول المتنبي:
وما
أرضى لمقلته بُحلم *** إذا
انتبھت توھمه ابتشاكا
فالكلمة تعني:
الكذب، وھي على ھیئتھا التي أوردھا الشاعر غریبة، حتى أحوجت النقاد إلى التفتیش عن
معناھا؛ فعدوھا من الغریب الذي یخل بفصاحة الكلمة.
أما السبب الآخر
للغرابة فھو ألَّا تكون الكلمة ظاھرة الدلالة على المعنى المراد في سیاقھا، بحیث تترَّدد
بین معنیین أو أكثر بلا قرینة، فتحیر القارئ أو السامع؛ حتى یلتمس في تخریجھا وجھا
بعیدا،ً كما في قول العَّجاج في محبوبته :
أیام
أبدْت واضحا مفُلجَّا *** أغَّر بَّراقا وطرفا أبرجا
ومقلًة
وحاجبا مزُجَـــــــجا ***وفاحما
وِمْرَسنا مسُرَجا
فقد
اختلف في تخریج كلمة (ُمَسَّرجا)ً فقیل: إنَّھا منسوبة إلى السیف الُّسریجي، نسبة
إلى قین یسمى سُریجا اشتھُر بصناعة السیوف، ویكون المراد: تشبیه الأنف بالسیف السریجي في الدقة والاستواء، وقیل إن الكلمة منسوبة إلى السراج على تشبیه الأنف بھا في البریق واللمعان، فھو مأخوذ من قولھم:سَّرج
للهوجھه ، أي:بَّھجه وحَّسنه .
والكلمة
على كلا التقدیرین - في نظر كثر من البلاغیین والنقاد - غیر ظاھرة الدلالة على
المعنى المراد؛ لأن مادة فَّعل بتشدید العین. إنَّما تدل على نسبة شيء إلى أخر.
كما یقال: شَّرف فلان فلانا،ً أي: نسبه
إلى الشرف، وكَّفره، أي: نسبه إلى
الكفر، فھو مشَّرف وُمكَّفر، أي: منسوب إلى الشرف والكفر، وھذه النسبة لا تدل على
تشبیه المنسوب بالمنسوب إلیھا كما أراد
الشاعر؛ إذ لم یرد استعمال اللفظ فیھا؛ فدلالتھا على التشبیه بعیدة.
وإذا
كان حمل الكلمة على ھذا التقدیر قد سقط من اعتبارنا، فما الداعي إلى عِّدھا من
الغریب ؟!
ونحن
نعتقد أن عزل الكلمة عن سیاقھا ھو الذي أوھم بھِذا الغموض والغرابة، بل أدى إلى
التسُّمح في إصدار أحكام طالما تحتاج في النظر المنصف إلى مناقشتھا قبل الإذعان
لھا أو التسلیم بھِا؛ لأن الكلمات لا تكتسب دلالة محَّددة وھي مفردة، وقبل أن توضع
في السیاق، بل یجب النظر إلیھا على أنَّھا لبنة في بناء محكم الأواصر تؤثر فیھا
وتتأثر بھا.
وقد
أفصح عبد القاھر الجرجاني (ت 471 ھ) عن ذلك النظر، في أثناء عرض نظریته في النظم، فقال: " وھل تجد أحدا یقول: ھذه
الكلمة فصیحة إلا وھو یعتبر مكانَھا من النظم، وحسن ملاءمة معناھا لمعانى
جاراتھِا، وفضل مؤانستھا لأخواتھِا؟ وھل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافه :
قلقة ونابیة ومستكرھة، إلا وغرضھم أن یعبروا بالتمُّكن عن حسن الاتفاق بین ھذه
وتلك من جھة معناھا، وبالقلق والنبِّو عن سوء التلاؤم، وأن الأولى لم تَلقِ
بالثانیة في معناھا، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقا للتالیة في.([ مؤداھا
" ([ 33
وعلى ھذا الأساس
نجد أن كلمة (ُمَسَّرجا)ً في قول رؤبة السابق تتصف بالغرابة إذا أخذت وحدھا من
البیت الذي وردت فیه . وفي ھذا تجاھل لدلالة السیاق، وھو من أبرز القرائن الدالة
على مراد المتكلم، كما أنھا تعُین المتلقي على تعیین المعنى عند الإشكال. فلو
نظرنا إلى الكلمة في سیاقھا فسوف نجد أنھا فصیحة بعیدة عن الغرابة؛ لأنھا لا تحتمل
إلا تخریجا واحدا ھو أن الشاعر یصف أنف محبوبته
بالدقة والاستواء كالسیف الُّسَریجي المشھور بھاتین الصفتین، وھذا المعنى
ھو الذي یلائم السیاق، وبخاصة إذا علمنا أن الشاعر یتفجع على محبوبته الموصوفة بتلك الصفات. أما تشبیه الأنف بالسراج فلا معنى له . فضلًا عن أنه لا
یتفق مع غرض الشاعر وسیاق القصید. وھذا یقودنا إلى أن نعَّد الغرابة مقیاسا
نسبیاًّ غیر مَّطرد، ویجب تقییده بالإطار الزماني والمكاني الذي تستعمل فیھ
الكلمة؛ فاللغة – أیة لغة – تتطور من عصر إلى عصر، كما یتطور المتحدثون بھا جیلًا
بعد جیل، فكثیر من الكلمات التي قد تبدو غریبًة بالنسبة لنا في ھذا العصر، لم تكن
بمثل ھذه الغرابة حینما یستعملھا الناس، وتوُضَع في إطارھا التاریخي آنذاك.
وقد تنبَّه إلى ذلك كوكبة من علمائنا المتقدمین
والمتأخرین( 1). حین قیدَّوا الحكم على غرابة الكلمة بُعْرف الأعراب الُخلصَّ لا
بالنسبة للمولدَّین؛ إذ لو نظرنا إلى الغرابة بالنسبة إلى استعمال الناس الذین لا
یتمتعون بالحسِّ اللغوي ، لخرج كثیر من قصائد العرب وكلامھا عن حِّد الفصاحة؛
فإنھا الآن لغلبة الجھل باللغة یَّعد غریبا لا تعُرف مفرداتھا فضلًا عن تراكیبھا.
ولیست الغرابة إلا وصفا طارئا فیھا، یزول بالاطلاع على معناه ویجرى على ذلك غریبُ
القرآن الكریم وغریب الحدیث الشریف.
وفي كتاب (صبح
الأعشى) للقلقشندي إجمالُ دقیق لنوعیة الألفاظ الغریبة ومرتبتھا في الحسن
والقبح، فھو
یقسمھا إلى:
1- غریب متوحش:
وھو قبیح، لا یختلف في قبحھا كل الناس في أي زمن من الأزمنة؛ لقلة استعمالھا عند
العرب الُخلصَّ وغیرھم، ومن أمثلتھا لفظة (جحیش) في قول تأبَّط شًّرا:
جَحیشِا
ویعَرْوِري ظھور المھالك( 1) ظَلُّ بموماة ویمُسِي بغیرھا
فھي من الألفاظ
المنكرة القبیحة، ولو وضعت كلمة (فرید) التي تؤدى معناھا موضعھا ما اختلّ شئ من
وزنھا.
2-غریب متوحش في
زمن دون زمن، وھو ما كان متداول الاستعمال في زمن العرب ثم ترك بعد ذلك، وھو بھذا
لا یعاب استعمالھا على غیرھم ممن قلتَّ معرفتھم بھا.
3- غریب متوحش
عند قوم دون قوم ككلام أھل البادیة من العرب بالنسبة إلى أھل الحضر منھم
.([34])
وقد تَھدي
الدكتور أحمد بدوي([ 35 ])بذلك؛ فربط استخدام الغریب من الألفاظ بنوعیة الصورة
الأدبیة التي یریدھا المتكلم والأنواع المعروفة لھا في عالم الأدب، فالنوع الذي
یراد بھ التأثیر السریع ونقل الشعورإلى القارئ في سھولة ویسر، كالخطب والروایات
التمثیلیة، مثل ھذه الأنواع یسُتثقل فیھا استعمال الغریب، أما الشعر فھو یقرأ في
ھدوء ویستمتع بقراءته في ریث وأناة، فلا
بأس من استعمال الغریب فیه ، إذا لم یكن وحشیا ممعنا في الغرابة.
(ج) مخالفة
القیاس اللغوى:
والشرط الثالث
لفصاحة الكلمة ھو ألا تكون مخالفة للقیاس اللغوي وذلك بجریانھِا على حسب القانون
النحوى والصرفي الذي یحكم حركة التعبیر بھِا تبعا لاستعمال العرب الفصحاء الذین
یعتد بكلامھم.
وقد رصد
البلاغیون عددا من ظواھر مخالفة القیاس اللغوي التي تخل بفصاحة الكلمة ([ 36 ])
نذكرمنھا:
-1 أن تكون
الكلمة غیر عربیة، مثل لفظة (المقراض) في قول أبي الشیص:
وجناحِ مقصوصٍ تحیفَّ ریشَه *** ریبُ الزمان تحیفُّ المقراض
فالمقراض لفظ
غیر فصیح؛ لأنه لیس في كلام العرب.
-2 أن تكون
الكلمة عربیة إلا أنَّھا قد عبِّر بھِا عن غیِر ما وضعت له في عرف اللغة كما في قول البحتري:
یشُّق
علیه الریح كل عشیةًّ *** جیوب الغمام بین
بكِر وأیمِّ
فوضع ( الأیم )
مكان ( الثیبِّ ) ولیس الأمر كذلك، لیس الأیم الثیب في كلام العرب. إنما الأیم
التي لا زوج لھا بكرا كانت أو ثیبا.ً
وكذلك قوله :
شرطّى
الإنصاف إن قیل اشترط ***وصدیقى من إذا صَافيَ قسط
وأراد ( بقسط )
عدل؛ لأن الأمر علیه ، ولكن الفعل لا یستعمل في ھذا المعنى بل یقال: أقسط: إذا عدل،
وقسط: إذا جار، قال لله تعالى: (َوأمَّا القْاِسطُوَن فَكانوُا لجِھَّنَم حَطًبا).
[الجن: 15
-3 أن یحدث في
الكلمة حذف یخل بمعناھا كما في قول رؤبة بن العجاج:
قواطنا مكة من
وْرق الِحما
یرید: الَحمام،
وقول النجاشى:
فلستُ
بآتیه ولا أستطیعه *** ولاِك اسقنى إن كان
ماؤك ذا فضل
یرید: ولكن
اسقنى.
-4 وقد یقع ذلك
على وجه الزیادة في الكلمة، مثل أن یشبع
الحركة فیھا، فتصیر حرفا،ً كقول الفرزدق:
تَنْفي
یداھا الحصا في كل ھاجرة ***نفَي الدراھیم تنَْقاَد الصیاریف
یرید: الدراھم
والصیارف.
-5 وقد یكون ذلك
بإیراد الكلمة على الوجه الشاذ القلیل،
وھو أردأ اللغات فیھا لشذوذه، ومن ھذا قول البحتري:
متحیرین
فباھت متعِّجبٌ ***مما یرى أو ناظٌر متأِّملُ
فقوله (باھت) لغة ردئیة شاذة، والعربى المستعمل بھُت
الرجل یبُھت فھو مبھوت.
-6 وقد یقع ذلك
بجمع الكلمة على خلاف الصیغة التي تجمع علیھا، كما قال الطِّرماح:
وأكره
أن یعیب علِّى قومى ***ھجاي الأرذلین ذوى الحِناّت
فجمع (إحنة) على
غیر الجمع الصحیح، لَّأنھا تجمع على إَحن لا حنات.
-7 وقد یكون ذلك
بإبدال حرف من حروف الكلمة بغیره، كما قال الشاعر:
لھَا
أساریر من لحم متَمَّرةٍ ***من الثعإلى ووخٌز من أرانیھا
یرید: من
الثعالب، وأرانبھا.
-8 وقد یكون بفك
الإدغام في الكلمة : كقول قعنب بن أم صاحب:
مھلًا
أعاذل قد جرْبتِ من خلقى*** أنى أجود لأقوام وإْن ضننوا
والصواب،
ضُّنوا، لأن قیاس التصریف في الأصل ھو الإدغام.
ولعلك
تلحظ أن العیب المخل بالفصاحة ھنا لیس مقصورا على مخالفة القیاس الصرفي فقط، بل تعددت صوره ومواضعه ؛ لیدخل فیھا كل ما ینكره أھل اللغة لمأخذ
لغوى أو صرفي، أو تصُّرف في الكلمة بزیادة أو نقص غیر معھودین في الوضع أو
الاستعمال؛ لأن مخالفة القیاس الصرفي لا تخل دائماً بالفصاحة؛ فقد تكون الكلمة
مخالفة للقیاس الصرفي، وھي مع ذلك فصیحة؛ لموافقتھا للوضع اللغوي، فكلمة (استحوذ)
مثلًا یقتضي القیاس الصرفي إعلالھا بقلب الواو ألفا،ً فیقال (استحاذ) كاستقام
واستجاب، ولكنھاوردت في القرآن الكریم بتصحیح الواو، قال تعالى (اْسَتْحَوَذ
علیَھْم الَّشْیَطاُن فَأنَساُھْم ذِكَر لَّله )[المجادلة: 19 ] وھي مع ذلك فصیحة
لموافقتھا ما نقل عن واضع اللغة.
ومن
ھذا القبیل كلمات: آل، وماء، وأبَى یأبَى، بفتح عینھا في المضارع، وَعِوَر یَعوُر.
فآل وماء أصلھما أھل وموه، أبدلت الھاء
ھمزة، وإبدال الھمزة من الھَاء مخالف للقیاس، وكذلك یأبَى فإن القیاس فیھاكسر
عینھا (الباء) لأن فَعل بفتح العین في الماضي لا تفتح عینھا في المضارع إلا إذا
كانت عینھا أو لامھا حرف حلق كسأل وقرأ ومنع. أما عوَر
یَعَوُر فقد بقیت الواو على حالھا ولم تقلب ألفا؛ً لأن الوصف منھا على أفعل فعلاء،
فیقال: أعور وعوراء؛ ولذلك استعمل الفعل ھكذا عِوَر یْعَوُر؛ لأن الفعل لم یستوفِ
شرط الإعلال، فھذه الأمثلة وماشاكلھا فصیحة، وإن خالفت القیاس الصرفي، لموافقتھا
للوضع اللغوي، وثبوت استعمالھا على تلك الصورة لدى العرب الفصحاء.
فصاحة الكلام
وترجع فصاحة الكلام - حسبما اشترط البلاغیون - إلى خلوصھا من تنافر الكلمات
مجتمعة، وخلوصھا من ضعف التألیف، ومن التعقید، مع فصاحة كلماتھا؛ لأن فصاحة الكلمة
شرط في فصاحة الكلام، ولو اشتملالكلام على كلمة غیر فصیحة لم یكن فصیحا.ً
1- تنافر
الكلمات:
وھو
وصف في الكلمات مجتمعة یوجب ثقلھا على اللسان وعن النطق بھِا، وینشأ ذلك من تكرار حرف
أو حرفین في الكلام المؤلفَّ، مما یؤدى إلى تنافر الكلمات وثقلھا عند النطق بھِا،
وقد یكون ھذا التنافر شدیدا كذلك البیت الذي أنشده الجاحظ وتناقله البلاغیون شاھدا على ھذا النوع:
ولیس قرُبَ قبِر
حربٍ قبُر( 1) وقبُر حربٍ بمكاٍن قفُر
فالتنافر فیھا
یرجع إلى تكرار القاف والباء والراء، وتقاربھا؛ مما أكسب الكلام ثقلًا شدیدا،ً حتى
لایتھیأ لأحد أن ینشده ثلاث مرات دون أن یتتعتع في نطقه .
وقول المتنبي:
فقلَقلَتُ
بالھمَ الذي قلَقلَ الحشَا *** قلاقلَ ھم كلھُّن قلاقلُ
وقول الحریري:
وشَّوه
ترقیشَ المَرقشَّ رْقشُه *** فأشیاعه
یشُكونه ومعاشُرْه
فتكرار القافات
واللامات في البیت الأول، والشینات في البیت الثانى قد أورث الكلام ثقلًا على اللسان، وكراھة في السمع.
وقد یكون
التنافر خفیفا.ً كقول أبى تمام یمدح موسى بن ھارون الرافقى ویدفع عن نفسه تھُمة ھجائه :
كریم
متى أمدحه أمدحه والورى*** معي وإذا ما لمُتھه لُمتھه وحدى
فإن في تكرار
كلمة (أمدحه ) ثقلًا خفیفا،ً لما بین الحاء والھاء من التنافر، وھما من حروف
الحلق، فإذا تكررت الكلمة تضاعف ذلك الثقل، ووقع التنافر المخل بالفصاحة، ولا
تظَّنن أن الجمع بین الحاء والھاء في (أمدحه ) ھو الذي أخَّل بفصاحة الكلام، فقد
وقع مثله في القرآن الكریم، واقرأ إن شئت
قوله تعالى(َوِمْن اللیَّل فَسبحِّه وَإدِباَر النُّجوِم ) [الطور: 49 ] فكلمة
(فسبحه ) قد اشتملت على الحاء والھاء، وھي مع ذلك في غایة الفصاحة.
كما ورد التكرار في قول
النبي صلى الله عليه وسلم الكریم بن الكریم بن الكریم بن الكریم یوسف بن
یعقوب بن إسحاق بن إبراھیم" ویشھد الذوق السلیم بفصاحة ھذا القول النبوي،
ولذلك كان ھذا الذوق ھو الفیصل في الحكم على مدى حسن ھذا المقیاس أو
قبحه ، كما كان مرجعنا في الحكم على تنافر الحروف في فصاحة الكلمة المفردة.
وقد ینشأ تنافر
الكلمات من تواردھا على صیغ متماثلة من الأفعال متعاطفة أو غیر متعاطفة،
كقولالمتنبى:
مِر
أنْه اْسِرفه تســـُلْ ***عِشِ ابْق اْسم سُد جْد قدُ
اسُبِ
رْع زْع دِل اثْن نلَ ***غَظ اُرِم صیب
اْحِم اْغُز
وقول عبد السلام
بن رغبان المعروف بدیك الجن:
وِرشْ
وأُمْر وانْتدَب للمعإلى *** اْحلُ وامْرْر وضُّر وانْفعَ ولنِ واْخشُن
ولعلك تحس أن
تكرار مثل ھذه الصیغ المتماثلة قد جعل الكلمات تتنافر فیما بینھا وتتعادى فلا یألف بعضھا الآخر، بمِا یؤدي إلى ثقلھا على اللسان والأذن معا،ً وإن
كان البیت الثاني أخف ثقلًا من الأول؛ وما ذاك
إلا من أجل توسط حرف العطف الواو بین صیغ الأمر المتتابعة التي أخلتَّ بفصاحة
الكلمة مجتمعة، على الرغم من أن كل كلمة على حدة
فصیحة مقبولة.
ومن تكرار الصیغ
المتماثلة قول المتنبي في مدح عبد لله بن خلكَّان:
جَعٍد
سَريِّ نه ندَبٍ رضًى ندْسِ*** ندَ أبٍّى غٍر وافٍ أخي
ثقة
فالمتنبى قد
أورد صفات متعددة على نمط واحد، مما أورث نظمھ تنافرا بین كلماتھ، حتى أصبح ثقیلًا
على اللسان والأسماع، نابیا عن الذوق، فباعد كل ذلك بینھا وبین الفصاحة.
وقد ینشأ
التنافر بین الكلمات من توالى أحرف المعاني، وتعاقبُ بعضھا إثر بعض كقول أبى تمام:
كأنه في اجتماع الُّروح فیه له*** في كل جارحة من جسمه روحُ
وقول المتنبي في
صفة فرسه السریعة:
وتسعدني
في غمرة بعد غمرة*** سَبوحٌ لھا منھا علیھا شواھُد
فالجار والمجرور
قد توالیا في البیت الأول ثلاث مرات (فیه ، له ، في كل) وكذلك في البیت الآخر(لھا،
منھا، علیھا) مما أورث النظم شیئا من الثقل.
وربما یكون
النظم متنافرا بسبب تتابعُ الإضافات في الكلام، كقول ابن بابك:
حمامة
جْرَعا حْوَمة الَجْنَدِل اْسَجعي*** فأنت بمرأي من سُعادَ وَمْسَمِع
فقد أضاف الشاعر
كل كلمة من الشطر الأول إلى ما یلیھا؛ ولذلك كان نظمھا متنافرا ثقیلًا على
اللسانوالأذن معا.ً
والواقع أن
تتابع الصفات والإضافات لیس شرطا مَّطردا في تنافر الكلمات والإخلال بالنظم؛ فقد
ورد تتابع الصفات في قوله تعالى: ( عَسى
رُّبُه إنِ طلقَّكَّن أنَ یبُدِله أزَواًجا خْیًرا مْنُكَّن مْسلمِاتٍ مْؤِمَناتٍ
قَانتِاتٍ.[ تَائبِاتٍ عابدِاتٍ سائحِاتٍ ثَیبِّاتٍ وَأبَكاًرا) [التحریم: 5
كما ورد تتابع
الإضافات في قولھ تعالى: ( مْثَل دَأبْ قَوْم نوُح وَعادٍ وَثُموَد وَالذَّیَن مْن
بَعِدِھْم وَما لَّله یرُیُد ظُلمْا للِعْبادِ ) [غافر: 31 ]. وھو في كلتا
الحالتین سھل الوقع، فصیح، لا تنافر فیھ ولا تكلف، ومرد ذلك في نظري إلى أن كل
كلمة من كلمات النظم القرآني قد اقتضاھا سیاقھا فوقعت بذلك موقعھا الملائم
لھا،بحیث لو رْمتَ أن نستبدل الكلمة بغیرھا لھوى الكلام عن مرتبة الفصاحة
والبلاغة؛ لذلك كان المعَّول علیھافي ذلك ھو الذوق الصحیح، تماما كما عولنا علیھا
من قبل في تنافر حروف الكلمة المفردة.
2- ضعف التألیف:
وھو
أن یكون تألیف الكلام جاریا على خلاف المشھور من قواعد النحو العربي عند جمھور
النحاة.
فإذا
ورد الكلام مخالفا لقاعدة نحویة مشھورة لدى الجمھور فھو خارج عن الفصاحة، وإن كان
صحیحا عند بعض النحویین، أما مخالفة الكلام للمجمع علیه من القواعد فخطأ لا ضعف تألیف. وھذا الخطأ في
التألیف یبُعد الكلام عن الفصاحة من بابٍ أولى.
أ- فمن صور ضعف
التألیف: عوُد الضمیر على متأخر لفظا ورتبة، كقول سیدنا حسان بن ثابت:
من
الناس أبقى مجُده الدھَر مطِعما فلو أن مجدا أْخلد الدھَر واحداً فالضمیر في
" مجده " یعود على " مطعم " وھو مفعول، فمرتبتھا التأخیر عن فاعلھا، وبذلك عاد الضمیر على متأخر
لفظا ورتبة، وھذا خروج بالكلام عن سنن المشھور من القواعد التي ارتضاھا
جمھورالنحاة ومنھا قول الآخر:
جزى
ربه عني عدىَّ بَن حاتم ***جزاَء الكلابِ
العاویات وقد فعَل
فالضمیر في
" ربه " یعود على " عدى
" وھو مفعول، وذلك ممتنع عند الجمھور فلا یصح أن یتصل بالفاعل
ضمیر یعود على المفعول بھ نحو " ضرب
غلاُمھ زیدا " حتى لا یعود الضمیر على متأخر لفظاً ورتبة.
أما عود الضمیر على متأخر لفظا دون رتبة فھو جائز نحو قولك: "ضرب غلَامُه زیٌد "،
لأن " زید
" فاعل
فرتبه التقدیم ". وإن تأخر لفظا.ً
ب- ومن ضعف
التألیف: وضع الضمیر المتصل موضع المنفصل بعد إلا في قول الشاعر:
وما
علینا إذا ما كنتِ جارتنَا ***ألَّا یجاورنا إلاِك دیاَّر
وقول الآخر:
لیس
إلاك یا علّى ھمامٌ سیفھُُ دون عْرضِھ مسَلولُ
فقد وقع الضمیر
المتصل بعد إلّا في قولھ: " إلاك " وھذا مخالف لما ارتضاه الجمھور.
ج- ومن صور ضعف
التألیف:نصب المضارع بدون ناصب، كما في قول الشاعر:
قبیٌح من الإنسان ینسى عیوبه*** ویذكَر
عیبا في أخيه قد
اختفي
وكقول طرفة بن
العبد:
وأن أشھد
اللذاتِ ھل أنت مْخلدِِى ألا أیھُّذا الزاجري أحضَر الوغى
فقد نصب الفعل
" ینسى " والفعل " یذكر " في البیت الأول بدون ناصب، كما نصب
طرفھ الفعل "
أحضر "
بدون أداة نصب أیضا.ً ولیس ھذا من المواضع التي تعمل فیھا "أن" مضمرة
جوازا أو وجوبا.ً
وعلى
ذلك فإن حذف أداة النصب مع بقاء عملھا في ھذین البیتین مخالف لرأي جمھور النحاة،
فھو ضعف تإلیف یخل بفصاحة الكلام.
3- التعقید: وھو
أن یكون الكلام غیر واضح الدلالة على المعنى المراد بھ وھو نوعان:
أ- التعقید
اللفظي: وھو أن یكون الكلام غیر ظاھر الدلالة على المعنى المراد بھا لخلل في نظمھا
وتركیبھا، لعدم ترتیب الألفاظ على وفق ترتیب المعاني، بسبب تقدیم أو تأخیر أو فصل
بأجنبي بین موصوف وصفتھ، أو بدل ومبدل منھا، أو مبتدأ وخبر ونحو ذلك مما یعُقدِّ
اللفظ، ویجھد السامع في فھم المراد من الكلام، ومثالھ قول الفرزدق یمدح إبراھیم بن
ھشام المخزومي خال ھشام بن عبد الملك بن مروان:
وما
مثلھُ في الناس إلا مَملكَّاً ***أبو أمُّ حٌّى أبوه یقُاَربھ
یرید أن یقول:
وما مثلھ في الناس حي یقاربھ إلا مملكا أبو أمھ أبوه، فالمعنى الذي أراد الفرزدق
أن یثبتھ للممدوح بسیط جدا،ً وھو أن ھذا الممدوح لا یشبھھ أحد على الإطلاق في
فضائلھ إلا ابُن أختھ ھشام بن عبد الملك، وھو بذلك یمدح الاثنین معا،ً ولكن
الفرزدق تعَّسف في القول حین أسرف في ارتكاب ھذه الضرورات التي أدت بالتالى إلى
خفاء المعنى المراد، وذلك لعدم ترتیب الألفاظ في الذكر على موجب ترتیب المعاني في
النفس، ومع أن كلًا من ھذه المخالفات في النظم جائز باتفاق النحویین إلا أن
اجتماعھا على ھذا النحو قد أورث الكلام تعقیدا بحیث لا یفھم مغزاه من لا یعلم
قصتھ، فقد فصل الشاعر بین المبتدأ (أبو أمه ) والخبر (أبوه) بأجنبي عنھما وھو
(حي). كما فصل بین الموصوف (حي) وصفته (یقاربه ) بأجنبى وھو (أبوه). وكذلك فصل بین
البدل (حي) والمبدل منه (مثلھا ) بكلام
كثیر، وقدم المستثنى (مملكا)ً على المستثنى منھ (حي) فازداد البیت تعقیدا حتى ضرب
بھ المثل في تعُّسف اللفظ كما یقول عبد القاھر الجرجانى( 1). ولا یكاد یخلو كتاب
من كتب البلاغة من ذكر البیت شاھدا للتعقید اللفظي.
وقد حاول بعض المحدثین
أن یلتمس العذر للفََرْزَدق بتزاحم المعاني في ذھنھ " فتزاحمت الألفاظ، واختلط
بعضھا ببعض، بینما الشاعر في شغل عنھا، وقد تملكتھ العاطفة وسیطرت علیھ الفكرة،
فلم یعبأ .( بنظام الكلمات المألوف " ( 2
والحق
أن تملكُّ العاطفة لھ وسیطرة الفكرة علیھ لا یسِّوغان صنیعھ في اضطراب النظم على
ھذه الصورة المختلة البناء، لأننا نقرأ شعرا كثیرا في غایة الجودة لفظا ونظما
ووضوحا في مرامیھ وأغراضھ، فھل نقول في ھذا الشعر الخالى من التعقید إنھ لیس في
درجة بیت الفرزدق من حیث تملكُّ العاطفة وسیطرة الفكرة ؟ ویبدو أن الفرزدق قد قصد
إلى ذلك قصدا،ً لإثارة الجدل حول قوله أو
استعراض مقدرته على التصرف في الكلام
خصوصا إذا علمنا أنھ كان على خلاف دائم مع النحاة، فھو یتحداھم وھم یخطِّئونه ،
حتى قال عبارته المشھورة: " علینا أن نقول، وعلیكم أن تحتجوا " ولذلك
رأینا كثرة ھذه الأبیات في شعره بصورة ملحوظة. ویرى بعض الباحثین " أن
الفرزدق وھو شاعر فحل یعرف طبائع اللغة. إنما فعل ذلك .([ تَھُّكما بالممدوح وولاء
الفرزدق للعلوین، وعداؤه لبنى أمیة - والممدوح منھم - یغرى بھِذا الظن"([
وأیا
ما كان الأمر فالبیت غیر فصیح؛ لما فیھ من التعقید اللفظى على نحو ما عرفتَ. ومن
أمثل التعقید اللفظي قول الفرزدق أیضا:ً
أبوه
ولا كانت كلیبٌ تصُاھرِه إلى ملٍك ما أّمُھ من محاربٍ والمراد: إلى ملك أبوه ما
أمھ من محارب، فقدم وأخر حتى جعل المعنى مبھما والنظم مختلًا. ومنھا قول المتنبى:
شِیمَ على
الَحسَب الأغر دلائلُ جَفخَت وھم
یجفخون بھِا بھِم والمراد: جفخت بھِم شیم دلائل على الحسب الأغر، وھم لا یجفخون
بھِا فقدم وأخر وفصل بین المتلازمین حتى أورث البیت تعقیدا لفظیا.ً ناھیك عن
الغرابة في كلمة "َجَفَختْ"، وكلمة " یجفخون "، ولو
قال: (َفَخَرتْ)
و(یفخرون) لأصبح بمنأي عن تلك الغرابة.
ومنھا قوله أیضا:ً
أنَيَّ
یكون أبا البریة آدمُ ***وأبوَك والثقلاِن أنتَ محمُد
وأصلھا: أنى
یكون آدم أبا البریة، وأبوك محمُد، وأنت الثقلان، أي: الجن والإنس، ومنھا قول
الآخر یصف دارا بالیة:
فأصبحْت
بعد خِّط بھجتھا *** كأن قفرّا رسوَمھا قلَما
أي: فأصبحت بعد
بَھجتھا قفرا كأن قلما خطّ رسومھا، فاختل نظمھا، وتعَّقد تركیبھا.
وربما یظن بعض
الناس أن ضعف التألیف یغنى عن التعقید اللفظي، وھذا غیر صحیح؛ لأن التعقید اللفظي
یكون باجتماع أمور تؤدى إلى استغلاق الكلام وصعوبة الوصول إلى معناه، وإن كانت جائزة
باتفاق النحاة، كالتقدیم والتأخیر والحذف والإضمار ونحو ذلك، فالتعقید اللفظي غیر
ضعف التألیف، ولكنھما قد یجتمعان في مثال واحد كما في بیت الفرزدق السابق. وینفرد
ضعف التألیف في مثل: " ضرب غلاُمُه
زیداً " وفي مثل: " جاءنى أحمٌد " بتنوین أحمد، وینفرد التعقید
اللفظي في مثل: " إلا عمرا الناسَ ضاربٌ محمٌد".([ وھذا جائز نحویا،ً
وأصلھ: محمد ضاربٌ الناسَ إلا عمرا ([ 41
فالكلام الفصیح
لابد أن یجىء ترتیب ألفاظھ في النطق على حسب ترتیب المعاني في الفكر، فلا تشتمل
على ما یخالف الأصل من تقدیم أو تأخیر أو حذف أو إضمار إلا إذا قامت قرینة تدل
علیھ، وبدون القرینة یكون الكلام مبھما معَّقدا بعیدا عن الفصاحة.
ب- التعقید
المعنوى: وھو أن یكون الكلام غیر واضح الدلالة عل المعنى المراد بھ؛ لخلل واقع في
انتقال الذھن من المعنى الأول المفھوم بحسب اللغة إلى المعنى الثانى المقصود، فلا یستطیع
السامع أن یقف على المراد منھ، كقول العباس بن الأحنف:
سأطلبُ
بعُد الدار عنكم لتقربوا ***وتسكب عیناي الدموَع لتجَمدا
یقول الشاعر:
سأوطِّن نفسي على تحمل الفراق، وُمقاساة الأحزان بالأشواق. لأحظي من وراء ذلك بوصل
یدوم، ومسرة لا تزول، فإن الصبر مفتاح الفرج، ومع كل عسر یسر. ولكل بدایة نھایة.
وقد اشتمل الشطر
الثانى من ھذا البیت على كنایتین: الأولى في قولھ (وتسكب عیناي الدموع) حیث كَّني
بسْكب الدموع عن الحزن الشدید نتیجة الفراق. وقد أصاب في ھذا التخریج؛ لأن البكاء
عنوان الحزن ودلیل علیھ كقولك: أبكانى وأضحكني، أي: سائني وسرنى، ومنھ قول حطان بن
الُمَعليّ وھو أحد شعراء الحماسة:
أضحكني
الدھُر بما یَرضي أبكانى الدَّھُر ویا ربَّما والكنایة الثانیة في قوله : (لتجمدا)
حیث كَّني بجمود العین عن السرور بلقاء الأحَّبة، والفرح بالوصال، وقد أخطأ في
ھذا، لأن الجمود ھو خلو العین من الدموع في حال إرادة البكاء منھا، فلا یكون كنایة
عن السرور، وإنما ھو كنایة عن بخُل العین بالدموع وقت إرادة البكاء. ودلیل ذلك:
1- وروده في
الشعر كثیرا بھِذا المعنى كقول الشاعر:
إن
عینا لم تجَُْد یوم واسٍط ***علیِك بجاري دمعھا لجَموُد ألا
وقول الخنساء:
أعینى
جوَدا ولا تجَُْمدا*** ألا تبكیاِن لصخِر الندَّى
فالجمود في كلا
البیتین كنایة عن بخُل العین بالدمع وقت الحزن والأسى فھي عین جمود.
2- قول أھل
اللغة: " سَنٌة جماد " لا مطر فیھا، وناقة جماد: لا لبن لھَا، ویعنى
ھذا: أن السنة بخیلة بالقطر، والناقة لا تسخو بالدر.
3- لو كان جمود
العین یصلح أن یكَُّنى بھ عن السرور، لجاز أن یدُعى به للرجال، فیقال: لا زالت عینك جامدة، كما یقال: لا أبكي الله عینك، وذلك مما لا شك في
بطلانھا. فقد اتضح لك التعقید المعنوي في قول العباس بن الأحنف "
لتجمدا" وذلك بسبب خفاء الانتقال من المعنى اللغوي إلى المعنى المراد، وھو
المعنى الكنائى الذي یریده، الشاعر أي السرور بلقاء الأحبة، مع أن جمود العین في
الاستعمال العربي الشائع إنما یكون كنایة عن بخلھا بالدمع حال إرادتھ منھا، ھذا
مما عَّقد الكلام وأبعده عن میدان الفصاحة.
بید أن بعض العلماء
نظر إلى ھذا البیت من زاویة أخرى فرأي فیھ رأیا مغایرا لما قلناه، یقول أبو العباس
المبرد: " ھذا رجل فقیر یبعد عن أھله ویسافر لیحصل على ما یوجب لھَم القرب
وتسكب عیناه الدموع في بعده عنھم، لتجمد عند وصولھ إلیھم"( 1) وبذلك یخرج
بالبیت من دائرة التعقید المعنوي على ھذا المعنى الذي انتھي إلیه.
ومن
أمثلة التعقید المعنوي أیضا أن تقول: " نشر الملكُ ألسنتَھ في المدینة "
أي جواسیسھ، ولیس من المعھود استعمال اللسان بمعنى الجاسوس؛ إذ لا تلازم بین
اللسان ومعنى الجاسوسیة، وإنما المعھود استعمال اللسان بمعنى اللغة، قال تعالى:
(َوَما أرَسلنْ مْن رُسوٍل إلِا بلِسِاِن قَوْمِه ) [إبراھیم: 4] أي متكلما بلغة
قومه ، فاستعمال اللسان في معنى الجاسوس غیر مفھوم، لخفاء اللزوم بین المعنیین،
وھذا تعقید معنوي یسلب الكلام فصاحته .
ومنھ قول زھیر
بن أبى سلمى:
وَمْن
لم یزَد عن حوضِه بسلاحه ***یھُدَّم وَمْن
لا یظَلِم الناس یظُلمَ
فقد استعمل
الظلم في معنى " الدفاع عن النفس "، والظلم تسلیط الأذى على الناس لا
دفع الأذى عن النفس، فلا علاقة بین المعنى الحقیقي والمعنى الكنائي الذي أراده
الشاعر، وبذلك لا ینتقل الذھن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني بسھولة، لخفاء
اللزوم بین المعنیین، ففي البیت تعقید معنوي، وإن كان من الممكن أن یجعل ھذا
التعبیر من قبیل المشاكلة كقول تعالى:(وجزاء سیئة سیئة مثلھا) وبذلك یكون فصیحا
على ھذا النحو من التوجیه .
.
تطور البلاغة من خلال الكتب المنهجية
والكتاب المنهجيين من النقاد والبلاغيين، ودارسي الإعجاز القرآني
|
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق